لدى محاولتنا الإجابة على تساؤل أحد الأمهات
(أو الآباء
): كيف أتعامل مع ابني ليصبح صحيحًا نفسيًا
؟ والإجابة على هذا التساؤل المهم تتمثل في اتباع القواعد التالية:
1- التوازن بين التطور والتكيف
هناك قاعدة تربوية هامة يمكننا اعتبارها قاعدة ذهبية في هذا المجال، وهي أن الطفل كائن نامي، ينمو كل يوم، ينمو في جسده وفي تفكيره وفي طاقاته وفي إدراكه وفي كل شيء، فهذا الطفل النامي يتغير من لحظة لأخرى ومن يوم لآخر، وفي ذات الوقت يحتاج مع هذا التغيير المستمر وهذا النمو المطرد أن يكون في حالة تكيف وانضباط وسلام مع البيئة والمجتمع المحيط به، وبهذا سنقول أن هذا الطفل لكي يكون صحيح نفسياً ونطمئن عليه، فلابد أن يكون هناك توازن بين متطلبات نموه وتطوره ومتطلبات تكيفه مع المجتمع والحياة.
ولكي نرى هذا المفهوم بشكل أوضح، سنفترض أن هناك كفتين، الأولى كفة "التطور " والثانية "التكيف"، ولكي يكون الطفل صحيح نفسياً، لابد من حدوث توازن ما بين هاتين الكفتين، فلو تخيلنا أن كفة التطور زائدة عن كفة التكيف، أو أصبحت هي الحائزة على الاهتمام، فسيتطور الطفل وينمو بسرعة في جسمه وفي ذكائه وفي تفكيره وفي كل شيء يخصه، ولكن – وبالمقابل – ليست له علاقة بالمجتمع الذي يعيش فيه ولا يتكيف معه، فهو في حالة تطور مطلق بدون قيود، وإذا ترك بهذا الشكل سيصبح أنانياً ولديه حالة نرجسية شديدة ولا يفكر إلا في نفسه ونموه وتطوره، وفي النهاية سيكون مدمرا لمن حوله ولنفسه أيضاً وفي حالة صراع دائم مع البيئة التي يعيش فيها، برغم كونه متطورا وناميا ومبدعا.
وعلى العكس، إذا كان هناك طفل آخر متكيف بدون تطور، بمعنى أنه مطيع جداً، هادئ جداً، ولا يفعل شيء إلا بأمر من الأب أو الأم، ويحتاج لأمر آخر ليوقف هذا الفعل، فهو مطيع تماماً لكل ما يأتي إليه من أوامر وتوجيهات وليست له أي حركة تطور أو نمو أو تفكير أو إبداع أو أي شيء.
هذا الطفل في معيار الأب والأم وهو صغير طفل مريح جداً لأنه
(بيسمع الكلام
) وهذا هو هدف كل أب وأم, ولكن عندما يكبر سيدرك الأبوين أن هذا الطفل عبء شديد جداً عليهم لأنه لا يمتلك أي مبادرة ولا يمتلك أي ملكات أو قدرات ولا يستطيع عمل أي شيء بمفرده، شخصية اعتمادية سلبية مملة.
إذاً فلكي تتحقق الصحة النفسية لأطفالنا لابد من مساعدتهم حتى يتطوروا، وينموا ، وفي الوقت نفسه، نساعدهم على التكيف مع البيئة التي يعيشون فيها، وهذا التوازن ليس توازناً جامداً أو ساكناً بحيث نزيد هذه الكفة، وننقص الأخرى مرة واحدة وتنتهي المهمة، لكن طالما كانت حركة النمو والتطور سريعة ومتغيرة فلابد من أن يواكبها تغير في حركة التكيف، فالتوازن هنا توازن ديناميكي بمعنى أنه يتطلب قدر عالي من المرونة، كلما زادت كفة نزيد الأخرى بمقدار مناسب وهكذا.
2 - الدوائر المتسعة : صحة الطفل - صحة الأم - صحة الأسرة - صحة المجتمع
وهذا التوازن
(المذكور أعلاه
) ليس فقط في دائرة الطفل، ولكن هناك دوائر أخرى متتالية تحتاج للتوازن، فلن ننظر للطفل على أنه كائن وحيد، لكن سننظر إليه باعتباره دائرة تحوطها دائرة الأم ، تحوطها دائرة الأسرة، تحوطها دائرة المجتمع، ولهذا يجب أن تكون هناك حالة توازن بين هذه الدوائر، فننظر لصحة الطفل، والأم ، والأسرة، والمجتمع، فالأم هي الحضن الأقرب للطفل، فلا نتصور وجود ابن صحيح نفسياً وأمه مضطربة نفسياً، والأسرة هي الحضن الأكبر الذي يحتضن الطفل والأم معاً، فلا نتصور الطفل والأم صحيحين معاً في حين أن الأسرة مضطربة، والطفل والأم والأسرة يحتضنهم المجتمع، وهو الدائرة الأكبر فلا نتصور أن يبقى هؤلاء في صحة في حين أن المجتمع في حالة اضطراب.
3- الصحة النفسية بين المطلق والنسبي
وفي الواقع، مفهوم الصحة النفسية لكل هؤلاء
(الطفل - الأم - الأسرة - المجتمع
) مفهوم نسبي، وليس مفهومًا مطلقًا، بمعنى أنه يختلف من بيئة لأخرى، ومن مجتمع لمجتمع ومن أسرة لأسرة، وما يمكن اعتباره صحيًا في مكان، يمكن اعتباره اضطرابًا في مكان آخر.
سنعطي مثالًا آخر بسيط ليوضح هذه النقطة: لو أن هناك طفل تشتكي أمه من كونه كثير الحركة ويقفز فوق الشبابيك، وعلى البلكونات، ويكسر الكراسي والأشياء، وهم يعيشون في شقة غرفتين وصالة، فهذا الطفل لو تخيلنا أنه انتقل من هذه الشقة الضيقة المحدودة الممتلئة بأشياء زجاجية وقابلة للكسر، ووضعناه في بيت واسع حوله ساحة كبيرة وشجر، وعاش الطفل في هذا المكان الجديد يجري في الساحة الخضراء ويقفز فوق الأشجار كما يريد، وقتها لن تحس الأم أي شقاوة منه أو أي حركة زائدة، وفي نهاية اليوم يعود بعد هذا الجهد المضني لينام والأم راضية وهو راض، هنا اعتبار المكان والظروف مهم جداً.
4 - الاستقطاب بين النقيضين مقابل الحوار والتعايش
هناك أسر تكون في حالة استقطاب ما بين نقيضين، بمعنى أنها أسرة أحادية النظرة وأحادية التفكير، فلا ترى الأشياء إلا بلونين، أبيض أو أسود، ولا تستطيع رؤية درجات الألوان البينية ما بين الأبيض والأسود، يرون أن ما يفعلوه هو الصحيح المطلق وكل ما عداه خطأ ولا يقبل النظر ولا التفكير ولا الحوار، فينشأ الطفل في هذا الجو وهو مستقطب استقطابا شديدا في ناحية واحدة أو اتجاه واحد، أحادي التفكير، لا يستطيع رؤية سوى احتمال واحد في كل شيء ولون واحد من كل الألوان.
من هنا عندما يكون الاستقطاب في اتجاه، لابد أن يتصارع مع الاتجاه الآخر أو يضاده، ويفقد هذا الطفل القدرة على التحاور والتعايش مع الآخرين المختلفين عنه، وبهذا الشكل يصبح الطفل دائماً في صراع مع أصحابه، ومع الجيران، ومع المجتمع، وعندما يكبر، يظهر موضوع الاستقطاب وأحادية التفكير مع الأب والأم، لأنه تعود أن الحقيقة واحدة فقط، الدنيا بها لون واحد، عندما يكبر ويدخل فترة المراهقة، يختلف عن الأب والأم، ولا يحتمل هذا الاختلاف فيبدأ بالعدوان على الأب والأم، لأنهم لم يعودوه الاختلاف مع الآخرين، والتحاور والتعايش معهم، فيدفع الأب والأم ثمن هذا الاستقطاب الذي أعطوه للطفل من خلال الجو الأسري القائم على فكرة الاستقطاب أو أحادية التفكير.
اقرأ أيضا:
إشكالية العلاقة بين الأبناء والآباء.. من يربي من؟! 5- الإحتياجات بين الإشباع والحرمان
للإنسان عدد كبير من الاحتياجات، وهناك عالم نفس شهير هو أبراهام ماسلو، قام بعمل ما يسمى
"هرم الاحتياجات
"، فقال أن الإنسان له احتياجات جسمانية، بيولوجية، ، بارة عن الأكل والشرب والمسكن والملبس، هذه الاحتياجات لابد أن تشبع أولاً، وتمثل قاعدة الهرم، يليها احتياج للأمن والاستقرار، يليه احتياج للانتماء، الانتماء لأسرة ولبلد وللإنسانية، يليه احتياج للحب، أن يكون الإنسان قادراً على أن يحب ويحب، يليه احتياج للتقدير، أن يحس بأن الناس يقدرونه كشخص، ويقدرون ما يفعله، وسعيدون به، وانتهى ماسلو في آخر الهرم بالاحتياج لتحقيق الذات، أن يحقق الإنسان ذاته في هذه الحياة، وتوقف عند هذه النقطة، لأنه كان يتبع المدرسة الإنسانية، التي كانت تنظر للإنسان على أنه هو نهاية المطاف, لكننا نضيف إلى هذه الاحتياجات احتياج مهم جداً هو التواصل الروحي، فالإنسان لديه احتياج للتواصل الروحي مع الله، مع الكون، مع السماء، مع الغيب، وهذا الاحتياج يمكن فهمه بشكل عملي وعلمي موضوعي من المعابد المنتشرة في كل أنحاء العالم تمثل مراحل التاريخ المختلفة، وكيف أن الإنسان كان محتاجا لأن يكون على علاقة بالسماء وبالله سبحانه وتعالى, فأنشئت المعابد في كل الحضارات لتمثل هذا الاحتياج الحيوي المهم عند الإنسان.
وهذه الاحتياجات لابد من أن تشبع بتوازن، بمعنى أن نبدأ أولاً بالاحتياجات الأساسية، الأكل والشرب والمسكن والملبس، ثم الأمان، والانتماء، ثم الحب، وهكذا، كل حاجة من هذه الحاجات تشبع وتأخذ حقها، ولا تطغى إحداها على الأخرى، ومع هذا هناك قاعدة مهمة وهي أن إشباع الاحتياجات لدرجة التخمة يؤدي إلى حالة من الترهل والضعف والمرض، فلابد من وجود توازن بين درجة الإشباع ودرجة الحرمان، فالإنسان محتاج أن يشبع وفي نفس الوقت أن يحرم من بعض الحاجات، فالحرمان ينشط الدوافع، ويجعل الإنسان يتحرك ويعمل ويكون لديه أمل، وهدف، ولو أشبعت كل حاجة، فسيتوقف الإنسان عن السعي والحركة والتفكير والإبداع، إذاً لابد من وجود أشياء يحتاجها، أشياء يحرم منها ويسعى إليها ويحلم بها.
إذًا فهناك توازن ما بين الإشباع والحرمان، فالطفل لو أخذ كل احتياجاته فلن يكون صحيحًا، ولو حرم حرماناً شديداً، ستصبح عنده مشاعر حقد وكراهية وحرمان وكره لمن حوله، لأن كل الذي يحتاجه لا يجده، وقد وضع علماء النفس معادلة يمكن تجربتها، وهي في الحقيقة مفيدة، قالوا أنه يكفى تلبية 70% من احتياجات الطفل، بمعني: لو أن الطفل طلب مائة حاجة، يلبى له منها 70 فقط، حتى لو كان ال 100 حاجة منطقيين وهو يحتاجهم فعلاً، لكن تلبية ال 100 حاجة لن تؤدي إلى سلامة هذا الطفل، فلابد من وجود شيء ينقصه
.. يسعى إليه ويحلم به، ويكون عنده الأمل أن يحصل عليها في وقت من الأوقات، ونشجعه أن يعمل ويسعى للحصول عليه.
6 - مواكبة مراحل النمو غالباً ما تأتي الأم وتقول أن أولادها عندما كانوا صغاراً كانت تحبهم، وتشعر أنهم جزءً منها، وكانوا منسجمين جداً معها، وعندما كبروا، أصبحت تحس بغربة معهم، كأنهم لم يعودوا أولادها، ولم تعد منسجمة معهم كما كانت، فهي عاجزة عن فهمهم، وهم بالمثل غير قادرين على فهمها.
لا تعرف بالضبط من المخطئ هي أم هم، هذه الأم نقول لها، أنها كانت متفقة مع أولادها في مرحلة معينة وهم أطفال، لكن أولادها يكبرون، ويتطورون في تفكيرهم ، وفي عاداتهم، وتقاليدهم، وتطلعاتهم, لكنها لم تتمكن من مواكبة هذه المراحل، وقفت عند مرحلة معينة، وثبتت عندها في حين أن أولادها مستمرين في النمو والتطور، فهنا نشأت فجوة ما بين الاثنين، فتكون الغربة واختلاف اللغة، فهي لا تفهم دنياهم ولا حياتهم ولا طبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه، وطريقة التعامل بينهم
. وهكذا نقول لها أنها هي والأب، لابد وأن يواكبوا مراحل نمو أبنائهم، ويعيشوا معهم مرحلة مرحلة، فهذه المواكبة مفيدة للأبناء، ولهم، فالأب الذي لم يعش مرحلة طفولته جيداً، ولم يعش مرحلة مراهقته جيداً، لأي سبب من الأسباب، فيعيد التجربة مرة أخرى مع أولاده في هذه المرحلة، سيكون وكأنه يعيش المرحلة التي فقدها أو التي أفلتت منه بدون ذنب منه، أو لأي ظروف حدثت، وهذا مفيد نفسياً، لأن الأشياء التي لم يتمكن من فعلها، سيعود لمعايشتها مرة أخرى، فيكمل النقص أو المساحات التي كانت مؤلمة نتيجة للحرمان في مرحلة معينة، وفي نفس الوقت سيكون على نفس الموجة مع أبنائه ، فتعطي فائدة مزدوجة للطرفين، وتجدد دائماً طفولة ومراهقة وشباب الأب والأم وتقوم بعمل حالة من التكامل في شخصيتهما.
د.محمد المهدي
أستاذ الطب النفسي
*بتصرف يسير
اقرأ أيضا:
هل يشابه أبناء المطلقين آباءهم ويستسهلون الطلاق؟ اقرأ أيضا:
زوجتي طفلة كلما غضبت خاصمتني وذهبت لبيت أهلها.. ماذا أفعل؟