العفو من مكارم الأخلاق السامية، وهو خلق كريم تحتاجه النفس البشرية لتتخلّص من كل الشوائب التي قد تعلق في القلب من أثر الأذى، وكذلك لينعم الأفراد بالخير والحب وانشراح الصدر، ويتحقق العفو بطولِ صبر وكظمٍ للغيظ واحتساب الأجر، ولا ريب أنّ تغليب العفو على العقاب ينجّي الأفراد من المنازعات الحادة التي قد تنشأ بينهم، إلّا إذا تمادى أصحاب الأذى مع كثرة العفو وتكرّر ظلمهم وإساءتهم؛ فيكون الإصلاح في هذه الحالة أولى من العفو والتسامح لدفع الضرر الحاصل.
وأجمع الفقهاء كذلك علي أن العفو خلق إسلامي عظيم ورفيع المقام ، يدل على إعراض المتخلق به عن أعراض الدنيا، وشهوات النفس الدنيئةبل أن اللغويين يعرفون العفو بأنه الإسقاط, والذهاب والطمس والمحو ومنه : "عَفَا اللَّهُ عَنْكَ" أي محا ذنوبك , وترك عقوبتك على اقترافها.
ومن معاني العفو في اللغة أيضا : الكثرة، ومنه قوله تعالى : {حَتَّى عَفَوْا} أي : كثروا. وكذلك من معانيه الإعطاء , ومنه قول لبيد : عفت الديار , قال ابن الأعرابي : عفا يعفو إذا أعطى , وقيل : العفو ما أتى بغير مسألة .
وفي اصطلاح الشرع : فيستعمل الفقهاء العفو غالبا بمعنى الإسقاط والتجاوز، ويختلف العفو عن الصلح في كون الأول إنما يقع ويصدر من طرف واحد , بينما الصلح إنما يكون بين طرفين. ومن جهة أخرى : فالعفو والصلح قد يجتمعان كما في حالة العفو عن القصاص إلى مال.
وبحسب منشور للدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف فإن الله تعالي قد أمر نبيه ﷺ بالعفو، وكذلك بالصفح الجميل فقال سبحانه : خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ وقوله تعالى : فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ .
وأخبر سبحانه بأن العفو هو خير ما ينفقه العبد فقال تعالى : وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ.
ومن البديهي الإشارة بحسب منشور مفتي الديار المصرية السابق فإن الله قد بالعفو في مواضع شديدة لا يعفو فيها إلا من تجرد عن هوى النفس حقا، وكان عبدا ربانيا، فأمر الله بالعفو في قتل النفس فقال سبحانه : " فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ "
بل وأمر الله تعالي كذلك بالعفو عن غير المسلمين، وفي أشد مواقف العداء للمسلمين، مما يبين أن العفو يناقض هوى النفس فقال تعالى : " وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ .
وأمر الله تعالى صفوته وحبيبه بالعفو عن المؤمنين فقال : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ وكذلك أمر حبيبه وصفوته بالعفو عن الكافرين الذين يكيدون له ولدينه، ويعادونه فقال تعالى : فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ. .
ولقد حث الله على العفو ببيان أثره في الدنيا والآخرة فأخبر الله عز وجل عن أثر العفو في الدنيا فقال تعالى : * وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وأخبر كذلك سبحانه عن أثر العفو في الآخرة وهو عفو من الله تعالى فقال : وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبـُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ .
وبل امتدح الله العفو والمغفرة من العباد في أكثر من موضع في كتابه فقال سبحانه وتعالى : وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ. وقال جل شأنه : * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ .
ووفي نفس السياق حث النبي ﷺ المسلمين على العفو عمن اغتابهم وتعرض لعرضهم. فعن الحسن أن النبي ﷺ قال : "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من منزله قال : اللهم إني تصدقت بعرضي على عبادك".
وليس أدل علي علو مقام العفو أنه كان أغلب أخلاقه ﷺ ، وأبرز سيرته، فعن عائشة رضي الله عنها : "ما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه قط في شيء إلا أن تنتهك حرمات الله - عز وجل - فينتقم لله عز وجل"" وعنها أيضا : "هل أتى عليك يا رسول الله يوم كان أشد من يوم أحد ؟ قال : لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيته منهم يوم العقبة ؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت ،فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب , فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني , فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال : إن الله - عز وجل - قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك , وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ,
ويستكمل رسول الله صلي الله وسلم الواقعة مع أمين الوحي جبريل قائلا "فناداني ملك الجبال فسلم علي وقال : يا محمد , إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بما شئت , فإن شئت أطبقت عليهم الأخشبين , فقلت : بل أرجو أن يخرج الله - عز وجل - من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا ).
ولا يختلف الأمر فيما روي عن أنس رضي الله عنها قال : "كنت أمشي مع رسول الله ﷺ وعليه برد نجراني غليظ الحاشية , فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة فنظرت إلى صفحة عاتق النبي ﷺ وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته , ثم قال : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك , فالتفت إليه وضحك ثم أمر له بعطاء ". "متفق عليه"
ولقد دعا النبي ﷺ لكظم الغيظ، حتى يتمكن الإنسان من العفو فقد ورد عن ﷺ: (ما جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد , ما كظمها عبد إلا ملأ الله جوفه إيمانا ). [ابن أبي الدنيا]، وكذلك ورد عنه ﷺ: (من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا ... ). [أبو داود]
اقرأ أيضا:
سنة نبوية مهجورة .. من حرص علي إحيائها قربه الله من الجنةفالعفو فضيلة باتفاق المسلمين، وتتأكد أفضيلته في مواضع يثقل على النفس فيها العفوفما أحوجنا للتخلق بهذا الخلق لما له الأثر البالغ في وحدة المجتمع وتوادهم، وفي هذا الهدف ترقى الأمة وتزدهر حياتهم، ويرضى عنهم خالقهم فيجمعون خير الدنيا والآخر