للجار حقوق كبيرة في الإسلام، لا ينافسه فيها أحد إلا ذوو الأرحام، وقد أولاه عظيم العناية والاهتمام به حتى تسود علاقات الأخوة والمحبة بين الناس، كل الناس، من دون تمييز أو تفرقة بينهم، فالكل له حقوق مصونة كفلها لها الإسلام، ومن غير شك فإن أعظم تلك الحقوق، حق الحفاظ عليه، وإماطة كل أشكال الأذى عنه، فلا لسان يسب، ولا عين تنتهك أستار البيوت.
بلغ اهتمام الإسلام بالجار، حد أن النبي صلى الله عليه وسلم ظن من كثرة وصايا جبريل أمين الوحي له، أنه سيكون له حق في الميراث، كحق ذوي الأرحام، وليس من قبيل المبالغعة أن نقول إننا لم نسمع دينًا سماويًا، أو قوانين كفلت كل هذه المودة والحب للجار إلا في الإسلام.
والجار هو أقرب الناس إليك، وربما كنت بعيدًا عن أهللك، فكان هو لك الأهل، وإذا ألم بك شيء كان هو أول من يقف إلى جوارك، يسأل عن أحوالك وتسأله عنه كذلك، تتزاورون وتتحابون، في تعايش اجتماعي يحرص الإسلام على ألا يشوبه ما يعكره من أحقاد، أو مشاكل وأزمات.
الإحسان للجار
جعل القرآن، الإحسان للجار - أي جار دون تمييز على أساس الدين أو اللون أو العرق - أولوية من الأولويات التي على المسلم أن يهتم بها، ولا يتغاضى عنها بأي صورة من الصور، وإذا جاء الفعل في القرآن في صيغة الأمر، فاعلم أنه إلزام، لا تهاون فيه أو تخاذل.
والقرآن قرَنَ الإحسان إلى الجار بالأمر بعِبادة الله سبحانه وتعالى، وبالإحسان إلى الوالدين،: "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا".
والجار ذي القربى: يعني الجار القريب، والجار الجنب : يعني الجار البعيد الأجنبي منك.
إذ الجيران في الإسلام ثلاثة أصناف: الأول جار له حق واحد فقط، وهذا الجار له حق الجوار فقط وهو الجار غير المسلم، والذي لا تَربطه بجاره صلة قربى.
الصنف الثاني: جار له حقان، وهو الجار المسلم، ولا تربطه بجاره صلة قربى ورحم؛ فالجار المُسلم هنا له حق الجوار، وحق الإسلام.
الصنف الثالث: جار له ثلاثة حقوق، وهو الجار المُسلم من الأقارب، فله حق الجوار، وحقّ الإسلام، وحق القربى والرحم.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الجيران ثلاثة: جار له حق واحد وهو أدنَى الجيران حقًّا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق وهو أفضل الجيران حقًّا؛ فأما الجار الذي له حق واحد واحد فالجار المشرك لا رحم له وله حق الجوار، وأما الذي له حقان فالجار المسلم لا رحم له وله حق الإسلام وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الإسلامِ وحق الجوارِ وحق الرحم، وأدنَى حق الجوار ألا تؤذي جارك بقتار قدرك إلا أن تقدح له منها".
اقرأ أيضا:
تقوى الله والخوف منه الوجه الآخر لاستشعار معية الله وأعظم ثمارهحقوق الجار
ومن حقوق الجار في الإسلام: الإحسان إلى الجار قَولاً وفعلاً ـ كف الأذى عنه ـ ستر عورته ـ حفظ سره ـ مشاركته أفراحه ـ مواساته في مصائبه وأحزانه ـ تلبية دعوته ـ زيارته في الظروف الطبيعيّة ـ عيادته في حالة المرض ـ تفقّده وتلبية احتياجاته عندما يفقدها مع القُدرة على ذلك ـ منع الأذى عنه بجميع صوره ـ مساعدته في حل مشاكله ـ إقراضه المال إن طلب مع القدرة على الإقراض ـ السعي في الإصلاح بين الجيران المُتخاصمين ـ مُصاحبته إلى المسجد، إحسان الظنّ به ـ الصّبر على أذى الجار ـ رد الغيبة عنه ـ مبادرته بالسلام.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم "ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"، بالغ جبريل في توصية النبي بالجار والإحسان إليه، حتى إن النبي ظن في نفسه، أنه سيجعل له حقًا في الميراث.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة ؛ فاكثر ماءها وتعاهد جيرانك"، وقد كنا نشاهد حتى زمن ليس بالبعيد كيف أن الجيران يتبادلون إرسال الأطعمة، ليس في المناسبات، بل في سائر الأيام، وكان مشهدًا معتادًا أن ترى طفلاً أو سيدة تحمل طبقًا به طعامًا، للجيران، ويرد الجار الآخر عليه بطبق من طعامه وهكذا.
وفي الحديث الذي رواه الطبراني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به". ومعناه: ليس المؤمن الكامل بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم، لإخلاله بما توجب عليه في الشريعة من حق الجوار، والمراد نفي كمال الإيمان وذلك، لأنه يدل على قسوة قلبه وكثرة شحه وسقوط مروءته ودناءة طبعه.
النهي عن إيذاء الجار
ونهى النبي عن إيذاء الجار؛ بل جعل إيذاء الجار من الأمور التي تنقص من إيمان المسلم، فقال: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه"، يعني غدره وخيانته وظلمه وعدوانه، فالذي لا يأمن جاره من ذلك ليس بمؤمن، وإذا كان يفعل ذلك ويوقعه فعلاً فهو أشد.
فقد حرم الإسلام الاعتداء على الجار؛ سواء كان ذلك بالقول أو بالفعل، أما بالقول فأن يسمع منه ما يزعجه ويقلقه، سواءً بصوته العالي، الذي يزعجه، أو من خلال تعلية صوت الراديو أو التلفزيون أو غيرهما مما قد يزعج الجيران، وهو مما نهى عنه الإسلام.
أما بالفعل فيكون بوضع الأذى في طريقه، سواءً من خلال إلقاء القمامة حول بابه، والتضييق عليه عند مداخل بابه، أو بتصرفات تلحق الأذى والضرر به، أو من خلال التجسس عليه، وانتهاك ستره، وهذا من أكثر ما يؤذي الجار.
إذ يحرم على الجار أن يؤذي جاره بأي شيء، فإن فعل فإنه ينتقص من إيمانه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها و لو فرسن شاةٍ".
وعظّم الإسلام، الذنب إذا تعلق بالجار، فيكون أشد قبحًا، وأعظم جرمًا، بل مرتبته بعد الكفر بالله، وقتْل الولد خشية الإطعام؛ وقد ورد في الصحيحَين عن ابن مسعودٍ - رضِي الله عنه - قال: "سألت رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تَجعل له ندًّا وهو خلقك"، قلت: ثم أي؟ قال: "أن تقتُل ولدك خشية أن يطعم معك"، قلت: ثم أي؟ قال: "أن تزني بِحليلة جارك".
قال ابن القيم في "الجواب الكافي": "فالزنا بالمرأة التي لها زوج أعظم إثمًا وعقوبة من التي لا زوْج لها؛ إذ فيه انتهاك حرمة الزوج، وإفساد فراشِه، وتعليق نسب عليه لم يكن منه، وغير ذلك من أنْواع أذاه، فهو أعظم إثْمًا وجرمًا من الزنا بغير ذات البعل، فإن كان زوجها جارًا له، انضاف إلى ذلك سوء الجوار، وإيذاء جارِ بأعلى أنواع الأَذى، وذلك من أعظم البوائق، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يدخل الجنة مَن لا يأمن جاره بوائقه"؛ رواه مسلم، ولا بائقة أعظم من الزنا بامرأته، فالزنا بمائة امرأة لا زوج لها أيسر عند الله من الزنا بامرأة الجار".