مع تعرض المسلمين للتعذيب وملاحقات المشركين، اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم دارًا لا يتوقعها أحد، لتكون تجمعًا لأصحابه يلتقيهم فيها، يعلمهم أمر دينهم ويثبتهم على دعوتهم.
الحكمة من اختيار دار الأرقم:
1-وكان من الحكمة جراء ما عاناه المسلمون من اضطهاد أن يمنعهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن إعلان إسلامهم قولاً أو فعلاً، وألا يجتمع بهم إلا سرًا؛ لأنه إذا اجتمع بهم علنًا فلا شك أن المشركين يحولون بينه وبين ما يريد من تزكية المسلمين وتعليمهم الكتاب والحكمة، وربما يفضي ذلك إلى مصادمة الفريقين.
2- وقد وقع ذلك فعلاً في السنة الرابعة من النبوة، وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجتمعون في الشعاب، فيصلون فيها سرًا، فرآهم نفر من كفار قريش، فسبوهم وقاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص، رجلاً فسال دمه، وكان أول دم أريق في الإسلام.
3- ومعلوم أن المصادمة لو تعددت وطالت، لأفضت إلى تدمير المسلمين وإبادتهم، فكان من الحكمة الابتعاد عن أعين قريش، فكان عامة الصحابة يخفون إسلامهم وعبادتهم ودعوتهم واجتماعهم.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يجهر بالدعوة والعبادة بين ظهراني المشركين، لا يصرفه عن ذلك شيء، ولكن كان يجتمع مع المسلمين سرًا؛ نظرًا لصالحهم وصالح الإسلام، وتجنب الصدام مع قريش حرصًا على عدم إراقة الدماء.
اقرأ أيضا:
النبي يطالب بإسقاط الديون عن أصحابه ويصلح بينهم.. حكايات عجيبةدار الأرقم مقر سري:
1-وكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي على الصفا، وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم، فكان أن اتخذها مركزًا لدعوته، ولاجتماعه بالمسلمين من السنة الخامسة من النبوة.
ولو كان الاجتماع علنيًا لأمكن أن يعلن عن مكان اللقاء في نوادي مكة، بل يمكن أن يكون اللقاء في الكعبة حيث منتدى قريش كلها، لأن مثل هذا التجمع المعلن يدفع مكة مباشرة إلى فض مثل هذا التجمع والقضاء عليه، كما يدفع مباشرة إلى الصدام المسلح بين الفريقين.
2- بقيت دار الأرقم مجهولة على قيادة مكة عامين كاملين، فلم نسمع من حوادث السيرة ما يدل على معرفتهم لها إلا من خلال حادث إسلام عمر رضي الله عنه في السنة الخامسة، ولعله لا يعرفها بالتحديد.
ولعل مكة لا تعرفها بالتحديد. فلقد كان جواب عمر رضي الله عنه لنعيم بن عبد الله: (... اذهب إلى محمد في دار عند الصفا). وقد لاحظت قريش بعض التوارد عند الصفا لأتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ولم تكن تعرف بالضبط في أي دار.
لماذا لم يتم اكتشافها؟
وكانت التعمية والمبالغة في السرية كفيلة أن تموه الأمر على قريش لسببين أو ثلاثة.
1-إن الأرقم لم يكن معروفًا بإسلامه، فما كان يخطر ببالها أن يتم لقاء محمد وأصحابه بداره.
2- الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه من بني مخزوم، وقبيلة بين مخزوم هي التي تحمل لواء التنافس والحرب ضد بني هاشم، فلو كان الأرقم معروفًا بإسلامه فلا يخطر في المال أن يكون اللقاء في داره، لأن هذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو.
3- إن الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه كان فتى عند إسلامه، فقد كان في حدود السادسة عشرة من عمره، ويوم تفكر قريش في البحث عن مركز التجمع الإسلامي فلن يخطر في بالها أن تبحث في بيوت الفتيان الصغار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل يتجه نظرها وبحثها إلى بيوت كبار أصحابه، أو بيته هو نفسه عليه الصلاة والسلام.
فقد يخطر على ذهنهم أن يكون مكان التجمع على الأغلب في أحد دور بني هاشم، أو في بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه أو في بيت عثمان بن عفان أو غيرهم.
ومن أجل هذا نجد أن اختيار هذا البيت كان في غاية الحكمة من الناحية الأمنية، ولم نسمع أبدًا أن قريشًا داهمته، إنما كان أقصى ما وصلت إليه هو شكها أن يكون اللقاء في دار عند الصفا.