يظن كثيرون من المسلمين أن هجر القرآن محصور في هجر القراءة فحسب، ولكن الصواب أن أنواع الهجر كثيرة، كما ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الفوائد:
- فهناك هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.
- وهناك هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به.
- وهجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته اللفظية أو أنه يحكي ماضيًا أو أشياء صعبة التحقق والعدول عنه إلى غيره مِن شر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة عن الآخرين.
- وهناك هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد الله منه، وهجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها, فيطلب شفاء دائه مِن غيره, ويهجر التداوي به وإن كان بعض الهجر أهون مِن بعض، وكل هذا داخل في قول الله تعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾، وكذلك الحرج الذي في الصدر منه، فإنه تارة يكون حرجًا من إنزاله وكونه حقًّا مِن عند الله، وتارة يكون مِن جهة التكلم به, أو كونه مخلوقًا مِن بعض مخلوقاته ألهم غيره أن تكلم به، وتارة يكون من جهة كفايتها وعدمها وأنه لا يكفي العباد, بل هم محتاجون معه إلى المعقولات والأقيسة, أو الآراء أو السياسات.
وتارة يكون مِن جهة دلالته, وما أريد به حقائقه المفهومة منه عند الخطاب, أو أريد بها تأويلها, وإخراجها عن حقائقها إلى تأويلات مستكرهة مشتركة، وتارة يكون مِن جهة كون تلك الحقائق وإن كانت مرادة, فهي ثابتة في نفس الأمر, أو أوهم أنها مرادة لضرب من المصلحة.
فكل هؤلاء في صدورهم حرج من القرآن, وهم يعلمون ذلك مِن نفوسهم ويجدونه في صدورهم، ولا تجد مبتدعًا في دينه قط إلا وفي قلبه حرج من الآيات التي تخالف بدعته، كما أنك لا تجد ظالما فاجرًا إلا وفي صدره حرج مِن الآيات التي تحول بينه وبين إرادته. فتدبَّر هذا المعنى ثم ارضَ لنفسك بما تشاء. (الفوائد ص 102).
وقد ضرب لنا القرآن المثل على الأمة التي تضيع العمل بكتابها، فقال تعالى مخبرًا عن بني إسرائيل، والخطاب للتذكرة والتحذير: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا اْلأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ َلا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِّلَا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ اْلآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (الأعراف: 169).
اقرأ أيضا:
بركة الطعام لاتحرم نفسك منها.. ماذا تفعل لو نسيت "التسمية" عند الإفطار؟وقال القرطبي في تفسيره: «وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا؛ فقد روى الدارمي في سننه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب، فيتهافت, يقرؤونه لا يجدون له شهوة ولا لذة, يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب, أعمالهم طمع لا يخالطه خوف, إن قصروا قالوا سنبلغ, وإن أساءوا قالوا سيغفر لنا, إنا لا نشرك بالله شيئًا».
قال الشيخ أبو بكر الجزائري في تفسيره لهذه الآية: «يحكي الله تعالى عن اليهود أنه قد خلفهم خلف سوء، ورثوا التوراة عن أسلافهم، ولم يلتزموا بما أُخذ عليهم فيها مِن عهود، على الرغم مِن قراءتهم لها، فقد آثروا الدنيا على الآخرة، فاستباحوا الربا والرشا وسائر المحرمات، ويدَّعون أنهم سيغفر لهم، وكلما أتاهم مال حرام أخذوه، ومنوا أنفسهم بالمغفرة كذبًا على الله تعالى، وقد قرئوا في كتابهم ألا يقولوا على الله إلا الحق وفهموه، ومع هذا يجترئون على الله ويكذبون عليه بأنه سيغفر لهم!!». (مِن مقال: إن قومي اتخذوا القرآن مهجورًا - صيد الفوائد).
ومِن العجب أن تهجر الأمة كتاب ربها، ثم بعد ذلك تتوقع أن ينصرها ربها؟
إن هذا مخالف لسنن الله في الأرض .. إن التمكين الذي وعد به الله والذي تحقق مِن قبل لهذه الأمة كان بفضل التمسك بكتاب الله عز وجل الدستور الرباني الذي فيه النجاة مما أصابنا الآن.
إن الذين يحلمون بنزول النصر مِن الله لمجرد أننا مسلمون لواهمون؛ ذلك أن تحقق النصر له شروط، قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي اْلأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يعبدوننى َلا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور: 55).
كما أن ما بعد النصر له شروط، قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي اْلأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَو ْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ اْلأُمُورِ﴾ (الحج: 41).
فعلى كل مسلم أن يحذر هجر القرآن بأي صورة من الصور ، وأن يتعهده بالقراءة والتدبر والحفظ والخشوع والتأثر بآياته، والرجوع إلى ما فيه من أحكام والالتزام بحلاله وحرامه.
اقرأ أيضا:
رمضان فرصة عظيمة لمحاسبة النفس وتهذيبها.. كيف ذلك؟اقرأ أيضا:
سنة نبوية رمضانية مهجورة.. من أحياها سقاه الله جرعة ماء من حوضه يوم القيامة ..وكان له مثل أجر الصائم