لعل البعض يتساءل كيف كانت الأخبار تتداول في الزمن القديم، قبل معرفة التقنيات الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعي.
وقد خلق الله تعالى لكل مجته وهداه لأدوات التواصل فيما بينه، وكانت العرب قبل الإسلام تعتبر الأسواق هي "المحطات الفضائية"، وأسرع وسيلة لنقل الأخبار منها هي مناشدة الأشعار، حيث يحفظون الأشعار بقوة بديهتهم ولغتهم، ويعود كل واحد فيذكر لقومه ما رآه، فتنتشر الأخبار سريعا لكل القبائل.
عكاظ ندوات سياسية:
وكان في عكاظ أشياء ليست في أسواق العرب: كان الملك من ملوك اليمن يبعث بالسيف الجيد، والحلة الحسنة، والمركوب الفاره، فيقف بها وينادي عليه: "ليأخذه أعز العرب" يريد بذلك معرفة الشريف والسيد, فيأمره بالوفادة عليه ويحسن صلته وجائزته".
وكان كسرى يبعث في ذلك الزمان بالسيف القاطع والفرس الرائع والحلة الفاخرة فتعرض في تلك السوق, وينادي مناديه: "إن هذا بعثه الملك إلى سيد العرب" فلا يأخذه إلا من أذعنت له العرب جميعا بالسؤدد.
وكان آخر من أخذه بعكاظ حرب بن أمية، وكان كسرى يريد بذلك معرفة ساداتهم؛ ليعتمد عليهم في أمور العرب, فيكونوا عونا له على إعزاز ملكه وحمايته من العرب.
كما كانت السوق ندوة سياسية عامة، تقضى فيها أمور كثيرة بين القبائل؛ فمن كانت له إتاوة على قبيلة نزل عكاظ فجاءوه بها.
ومن أراد تخليد نصر لحيّه أو قبيلته فعل فعل عمرو بن كلثوم فرحل إلى عكاظ وخلده فيها شعرا، ومن أراد إجارة أحد هتف بذلك في عكاظ حتى يسمع عامة الناس، ومن أراد إعلان حرب على قوم أعلنه في عكاظ.
ولعل القاريء يستعجب من أن "جمعية الأمم" أو "هيئة الأمم المتحدة" وما قامتا به من مجهود "رسمي" في سبيل السلم الخاص، كان لها صورة مصغرة تشبههما بحسب الظاهر "لا في الحقيقة؛ لأن عكاظ لم تكن ترائي فتستغل الدعاية الشريفة لتسيغ للقوي أكل الضعيف".
روى الأصفهاني أنه: "اجتمع ناس من العرب بعكاظ منهم قرة بن هبيرة القشيري والمخبّل وهو في جوار قرة، في سنين تتابعت على الناس فتواعدوا وتوافقوا ألا يتغاوروا حتى يخصب الناس".
اقرأ أيضا:
ما هو الفرق بين البيت العتيق والبيت المعمور؟ ومكان كل منهما؟عكاظ صحيفة يومية:
وكانت هذه السوق تقوم من العرب يومئذ مقام الجريدة الرسمية في أيامنا هذه, ومن ذلك في أمر الجوار وأخبار الحروب.
فمن أتى عملا شائنا تأباه مروءة العربي شهروا أمره بعكاظ, ونصبوا له راية غدر، فعرفوه فلعنوه واجتنبوه.
ومن أراد أن يستلحق امرأ بنسبه استلحقه وأعلن ذلك للناس في عكاظ، ومن أراد التبرؤ من قريب لسبب ما، تبرأ منه علنا، فإذا أتى بعد ذلك جريمة أو خيانة كان المتبرئ -في عرف العرب يومئذ- في حل مما أتى قريبه.
وقد كان قيس بن الحدادية من شعراء الجاهلية، شجاعا فاتكا صعلوكا خليعا، وقد جرّ على قومه خزاعة عنتا وإرهاقا كبيرا، فخلعته خزاعة بسوق عكاظ وأشهدت على نفسها بخلعها إياه, فلا تحتمل جريرة له ولا تطالب بجريرة يجرها أحد عليه.
كما إذا أطلق لقب على أحد في عكاظ عرف صاحبه به، وجرى له مجرى اسمه واسم أبيه، حيث قاتل أبو ربيعة بن المغيرة من قريش "يوم شرب" وهو من أيام عكاظ برمحين فسمي ذا الرمحين وبه يعرف، وثبت في هذه الحروب من قريش أولاد أمية بن عبد شمس الستة وهم: حرب وأبو حرب وسفيان وأبو سفيان وعمرو وأبو عمرو فسموا "العنابس" والعنبس: الأسد.