ذكر القرآن الكريم في غير ذي موضع عذاب أقوم بعض الأنبياء الذين كذبوا رسلهم، فذكر عذاب قوم نوح وقوم لوط وشعيب وغيرهم.
والسؤال هل كل أقوم الأنبياء الذين كذبوا رسلهم ذكر القرآن عذابهم.. بالتدقيق نجد الإجابة بالنفي فلم يذكر القرآن عذاب جميع أقوم الرسل المكذبين.
والتأمل نجد أن قوم أبراهيم وقوم عيسى عليهما السلام وقد كذبوا الرسل لكن لم يذكر القرآن عذابهم.. فما الحكمة من عدم ذكر عذابهم.
وقد تكلم العلماء عن الحكمة من ذلك حيث قالوا لم يذكر القرآن عذابا أنزله الله على قوم إبراهيم الذين كذبوه، وذلك أن الله لم يعاقبهم بعذاب دنيوي.
وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية عن وجه عدم إهلاك قوم إبراهيم -عليه السلام- وبيَّن الحكمة من ذلك بكلام محرر.
فقال في كتابه النبوات: ومن آياته: نصر الرسل على قومهم. وهذا على وجهين:
تارة: يكون بإهلاك الأمم، وإنجاء الرسل وأتباعهم؛ كقوم نوح، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، وموسى. ولهذا يقرن الله بين هذه القصص في سورة الأعراف، وهود، والشعراء، ولا يذكر معها قصة إبراهيم.
والله تعالى لم يذكر قط عن قوم إبراهيم أنهم أهلكوا، كما ذكر ذلك عن غيرهم، بل ذكر أنهم ألقوه في النار، فجعلها الله عليه بردا وسلاما، وأرادوا به كيدا، فجعلهم الله الأسفلين الأخسرين.
وفي هذا: ظهور برهانه، وآيته، وأنه أظهره عليهم بالحجة والعلم، وأظهره أيضا بالقدرة؛ حيث أذلهم ونصره. وهذا من جنس المجاهد الذي هزم عدوه، وتلك من جنس المجاهد الذي قتل عدوه.
وإبراهيم بعد هذا لم يقم بينهم، بل هاجر وتركهم. وأولئك الرسل لم يزالوا مقيمين بين ظهراني قومهم حتى هلكوا، فلم يوجد في حق قوم إبراهيم سبب الهلاك؛ وهو إقامته فيهم، وانتظار العذاب النازل.
وهكذا محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه لم يقم فيهم، بل خرج عنهم، حتى أظهره الله تعالى عليهم بعد ذلك.
ومحمد وإبراهيم -عليهما الصلاة والسلام- أفضل الرسل؛ فإنهم إذا علموا الدعوة، حصل المقصود. وقد يتوب منهم من يتوب بعد ذلك؛ كما تاب من قريش من تاب.
قوم إبراهيم:
وأما حال إبراهيم: فكانت إلى الرحمة أميل، فلم يسع في هلاك قومه، لا بالدعاء، ولا بالمقام، ودوام إقامة الحجة عليهم.
وقد قال تعالى: {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم}. وكان كل قوم يطلبون هلاك نبيهم، فعوقبوا.
وقوم إبراهيم أوصلوه إلى العذاب، لكن جعله الله عليه بردا وسلاما، ولم يفعلوا بعد ذلك ما يستحقون به العذاب؛ إذ الدنيا ليست دار الجزاء التام، وإنما فيها من الجزاء ما تحصل به الحكمة والمصلحة؛ كما في العقوبات الشرعية.
فمن أراد أعداؤه -من أتباع الأنبياء- أن يهلكوه فعصمه الله، وجعل صورة الهلاك نعمة في حقه، ولم يهلك أعداءه، بل أخزاهم، ونصره؛ فهو أشبه بإبراهيم.
وإذا عصمه من كيدهم، وأظهره حتى صارت الحرب بينه وبينهم سجالا، ثم كانت العاقبة له، فهو أشبه بحال محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن محمدا سيد الجميع، وهو خليل الله؛ كما أن إبراهيم خليله.
والخليلان: هما أفضل الجميع، وفي طريقتهما من الرأفة والرحمة، ما ليس في طريقة غيرهما، ولم يذكر الله عن قوم إبراهيم دينا غير الشرك، وكذلك عن قوم نوح.
وأما عاد: فذكر عنهم التجبر، وعمارة الدنيا.
وقوم صالح: ذكر عنهم الاشتغال بالدنيا عن الدين، لم يذكر عنهم من التجبر ما أهل مدين: ينذكر عن عاد، وإنما أهلكهم لما عقروا الناقة.
قوم مدين:
ذكر عنهم الظلم في الأموال، مع الشرك؛ {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء}. وقوم لوط ذكر عنهم استحلال الفاحشة، ولم يذكروا بالتوحيد، بخلاف سائر الأمم. وهذا يدل على أنهم لم يكونوا مشركين، وإنما ذنبهم استحلال الفاحشة، وتوابع ذلك. وكانت عقوبتهم أشد؛ إذ ليس في ذلك تدين، بل شر يعلمون أنه شر.
وهذه الأمور تدل على حكمة الرب، وعقوبته لكل قوم بما يناسبهم؛ فإن قوم نوح أغرقهم؛ إذ لم يكن فيهم خير يرجى.
وأما قوم عيسى -عليه السلام- فلم ينزل عليهم عذاب عام، فإن الله سبحانه بعد نزول التوراة لم يهلك أيّ أمة بعذاب يعمهم، كما قال سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {القصص:43}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكان قبل نزول التوراة يهلك الله المكذبين للرسل بعذاب الاستئصال، عذابا عاجلا يهلك الله به جميع المكذبين كما أهلك قوم نوح، وكما أهلك عادا، وثمودًا، وأهل مدين، وقوم لوط، وكما أهلك قوم فرعون، وأظهر آيات كثيرة لما أرسل موسى ليبقى ذكرها وخبرها في الأرض، إذ كان بعد نزول التوراة لم يهلك أمة بعذاب الاستئصال، بل قال تعالى:{ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} [القصص: 43].
بل كان بنو إسرائيل لما يفعلون ما يفعلون من الكفر والمعاصي يعذب بعضهم ويبقى بعضهم، إذ كانوا لم يتفقوا على الكفر، ولهذا لم يزل في الأرض أمة من بني إسرائيل باقية.
وقال: المعروف عند أهل العلم أنه بعد نزول التوراة لم يهلك الله مكذبي الأمم بعذاب من السماء يعمهم; كما أهلك قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وغيرهم، بل أمر المؤمنين بجهاد الكفار; كما أمر بني إسرائيل على لسان موسى بقتال الجبابرة. من الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح.
وفي تفسير ابن كثير: وقوله: ﴿من بعد ما أهلكنا القرون الأولى﴾ يعني: أنه بعد إنزال التوراة لم يعذب أمة بعامة، بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداء الله من المشركين، كما قال: ﴿وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة * فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية﴾ [الحاقة: ٩، ١٠].
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا محمد وعبد الوهاب، قالا حدثنا عوف، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: ما أهلك الله قوما بعذاب من السماء ولا من الأرض بعدما أنزلت التوراة على وجه الأرض، غير القرية التي مسخوا قردة، ألم تر أن الله يقول: ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى﴾.
ورواه أبو بكر البزار في مسنده، عن عمرو بن علي الفلاس، عن يحيى القطان، عن عوف، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد موقوفا. ثم رواه عن نصر بن علي، عن عبد الأعلى، عن عوف، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد -رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم -قال: "ما أهلك الله قوما بعذاب من السماء ولا من الأرض إلا قبل موسى"، ثم قرأ: ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى﴾.