ميز الله سبحانه وتعالى الإنسان على الحيوان وعلى سائر المخلوقات، بالعقل والفكر، وألهمه فضيلة التدبر في آياته وأعطاه الحكمة، قال تعالى: "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها"، وأمره بالتفكر والتدبر ملكوته، وآياته.
فالفكر هو العبادة التي ارتقى بها الإنسان إلى الله، وسياحة نورانية؛ ينطلق فيها القلب في وعي، والعقل في يقظة، ليجتمعا على التقاط الحكمة والمعرفة وتحقيق معاني الإيمان والترقي في درجات العبودية.
يقول الله تعالى:﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)﴾
مَنْ هم أولو الألباب؟
الألباب هم أصحاب العقول، وقد شبه الله العقل في الإنسان كاللب في الثمرة، فما قيمة قشرة الثمرة، بكم تشتري قشور الثمار ؟ بلا شيء، لكن بكم تشتري الثمار ؟ بكل شيء، لأن فيها لبًّا، فالعقل في الإنسان كاللب في الثمرة، والعقل كما ورد: أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً، ورأس الحكمة مخافة الله، فعقلك يظهر بقدر خوفك من الله وحبك له، فإذا قلَّ الخوف ضعف العقل، وإذا قلَّت المحبة ضعف العقل.
لذلك أمر الله سبحانه بالتفكُّر والتدبر في كتابه العزيز، وأثنى على أصحاب هذه العبادة الراقية، بقوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران من الآية:191]، وقال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد من الآية:3].
وعلى الجانب الأخر، نعى الله سبحانه على الغافلين عن النظر والتدبر في كونه، فقال عز وجل: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
وقال سبحانه وتعالى: {وَكَأَيِّن مِّنْ ءَايَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105].
سياحة العقل
والتفكُّر بمعناه الواسع هو نوع من أنواع سياحة العقل في آيات الله الكونية، والتفكُّرَ في آيات الله المقروءة في كتابه الكريم، والتدبرَ في عظيم فِعْل الله وبديع تدبيره وسنن الله في كونه، وهو رأس وسائل التزكية وخطوات التربية لبناء النَفْس، ويكفي في شرف التفكُّر، وعظيم قَدْره، ومسيس حاجة المؤمنين عامة والدعاة الربانيين له خاصة؛ أن أصول أعمالهم ورأس مالهم الذي عليه تُبنى ربانيتهم: من تلاوة، وقيام، وعِلْم، وذِكْر، لا تكمل ولا تثمر بدون نوع تفكُّر يسري فيها كسريان الروح في الجسد؛ فيستجلي به العبد من التلاوة مقاصد الرب من كلامه، ويفجر به معاني العبودية في قيامه، ويستعين به على تحقيق مقصد العلم من العمل.
فليس المقصود من تدبُّر آيات الكون الوقوف عند ظواهرها فقط، بل إدراك تلك الحقائق الضخمة التي تقف وراء هذا الكون العظيم، والتي تُحدِث تلك النقلة الاعتبارية المقصودة من التفكُّر عند أولي الألباب، وتتحول بهم من الوقوف على عَظَمَة الخَلْق إلى عَظَمَة الخالق؛ فيلقي في النفس التعظيم لهذا الخالق المبدع وتلهج الألسنة بذكر ربها: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران من الآية:191].
اقرأ أيضا:
أعظم وصية نبوية..وسيلة سهلة لدخول الجنةفوائد عبادة التفكر وسياحة العقل
التعرُّف على الله: وهو المقصود الأسمى والمطلوب الأهم من عبادة التفكُّر، وهو الغاية الجامعة لما سواها من غايات التفكُّر، وما سلك العابدون طريقًا إلى ربهم أسرع ولا أرحب من التفكُّر.
فالنظرِ بعين القلب لآثار أسماء الله وصفاته وحكمة أفعاله وواسع قدرته، يستنبت في القلب معاني التوحيد، ويستفيد منه العبد معرفة الله وجلال عظمته.
إحسان العمل ودوامه: استدامة التفكُّر الذي يجمع بين وعي العقل وحضور القلب تصل بصاحبها إلى حُسْن الفهم عن الله، المورِّث للعلم الحقيقي الذي هو قناعة العقل واطمئنان القلب وانقياد الجوارح.
هَجْر الذنوب: التفكُّر في عَظَمَة الله وواسع قدرته وعظيم بطشه وشديد انتقامه يُورِث القلب خوفًا مزعجًا وخشية تحول بينه وبين شهوات نفسه وأهوائها؛ فالأثر النوراني لهذا التفكُّر يعرقل عمل الشهوات في القلب ويدفع أهواءها على حسب قوة الوارد من أنوار التفكُّر؛ فتُسْلَب الشهوة من عاجل لذتها فما يتبقى منها إلا سوء عاقبتها.
استجلاء حقائق الإيمان: التفكُّر يكشف للقلب ما حُجب عنه بسبب الذنوب من معاني الإيمان، ويجلب كلُّ نوع من أنواع التفكُّر للقلب مشهدًا من مشاهد الإيمان وحقيقة من حقائقه؛ فتظل معاني الإيمان وحقائقه من يقين وخشية وحب ورجاء وتوكُّل وإنابة تلوح للقلب في جَوْلات التفكُّر.
رقة القلب: التفكر يُورِث القلب رقةً وإخباتًا لما ينطبع فيه من مشاهد العَظَمَة والقدرة والقهر التي تطرد دواعي الكبر والعُجْب وتستنبت بذور الذل والتواضع لله عز وجل.
الوقوف على مواطن الضعف والقوة: فالتفكُّر مرآة تعكس بنور البصيرة خبايا النفوس وعيوبها؛ وفي جلسات التفكُّر الصافية البعيدة عن تزيين الشيطان وحظوظ النفس.
تصحيح المسار: النظر فيما يجري من مِحَن وابتلاءات تحمل الكثير من العبر، ووقائع تحمل العديد من الدروس: من هزيمة ظالم، وانتصار مظلوم، ومن جريان الأيام دول بين المؤمنين والكافرين.