بيَّن الله سبحانه وتعالى في شريعته أن الدنيا دار ابتلاء واختبار، وأنه يبتلي عباده بالمصائب والشدائد ليمحِّصَ إيمان المؤمنين، ويختبرَ صدقهم ويقينهم، ويستخرجَ من كلّ نفس ما تخفي من خير أو شر.
فحين تقع المصائب تجد النفوس الطيبة تتحلى بالصبر والثبات واليقين والرجاء والإنابة والثقة بالله تعالى. وأما النفوس الخبيثة فتصدر الجزع والسخط والتذمر القنوط فتُحرَم بذلك الأجرَ دون أن تغيِّر من قضاء الله وقدره شيئاً.
قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْـخَوْفِ وَالْـجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ 155الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 155 - 156].
وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].
مواقف مر بها النبي
وحينما مر النبي صلى الله عليه وسلم بموقف من الصعوبة أن يتحمله إنسان، حينما نزل عليه الوحي جبريل، ليبلغه رسالة ربه، أغشي على النبي، وذهب إلى البيت مسرعا، فطمأنته حكيمة العرب السيدة خديجة رضي الله عنها بكلمات من ذهب.
فلما نزل الوحيُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء لأول مرة، رجع إلى خديجةَ رضي الله عنها فأخبَرَها الخبر وقال: ((لقد خشيتُ على نفسي!))،فقالت له رضي الله عنها: "كلَّا! والله لن يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق" أخرجه الشيخان.
كلمات قل أن تجد من يصدرها إلا من امتلأ قلبه باليقين، في أن عمل الخير لن يذهب حسرة أبدا، بحسب ما دلت عليه الفطرة الإنسانية التي خلقها الله سبحانه وتعالى في كل نفس.
اظهار أخبار متعلقة
خصال الفطرة الطيبة
فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد خشيتُ على نفسي!))؛ أي: مما حدث له في الغار وخارجه من أمر الوحي ورؤية الملَك (جبريل) عليه السلام، ردَّتْ عليه السيدة خديجة بلسان الواثقة: "كلَّا! والله لن يخزيك الله أبدًا"؛ كلا لن يحزَن قلبُك، ما دام يحمل الخيرَ للناس، وما رأيتَه قد يكون فيه خيرٌ لك؛ فلن يخزيَك الله؛ أي: لن يفضحك ولن يهينك... ثمَّ عدَّدتْ له خصالًا فيه، لن يخزيَ الله مَن اتصف بها، فهي خصال الفطرة الطيبة التي تقف في وجه النوائبن وهي:
1- تصل الرحم: أي تُحسن إلى أقاربك بالمال، أو بالخدمة، أو بالزيارة، أو السلام، وغير ذلك.
2- تصدُق الحديث: وقد كان معروفًا في الجاهلية بالصادق الأمين، وقال له قومه: "ما جرَّبنا عليك كذبًا قط".
3- تُؤَدِّي الأمانة: والأمانة كلُّ حقٍّ يلزم أداؤه وحفظه؛ كالودائع... وأداؤها إيصالها حيث شاء صاحبها أو إرجاعها إليه، وعندما لاحَقَ المشركون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، خرج إلى المدينة مهاجرًا وترك عليَّ بن أبي طالب ليرُدَّ الأمانات إلى أهلها، ولم يَسْتبحْها بكفرهم ولا بظلمهم.
4- تَحمِل الكَلَّ: أي تتحمَّل مؤونة الكَلِّ، وهو الضعيف واليتيم وذو العيال، فتُنفِق عليه، وتقوم على حاجته.
5- تَكسِب المعدوم: أي تكسب المالَ المعدوم، فتحصل منه بعملك وعرق جبينك ما يَعجِز عنه غيرُك، وتبذُل من هذا المال للمحتاج أو المعدوم (المعدم).
6- تقري الضيف: والقِرى هو ما يُقدَّم للضيف من طعام وشراب، وما يحتاجه حال وجوده عند مضيفه؛ أي: أنت تكرم الضيف.
7- تعين على نوائب الحق: والنوائب جمع نائبة، وهي الحادثة أو المصيبة، وإنما قالت: نوائب الحق؛ لأن النائبةَ قد تكون في الخير وقد تكون في الشر، وقال ابن حجر في فتح الباري: "هي كلمة جامعة لأفراد ما تقدَّم ولما لم يتقدَّم".
قال الإمام النووي في شرح مسلم: "قال العلماء رضي الله عنهم: معنى كلام خديجة رضي الله عنها إنك لا يصيبك مكروه؛ لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق وكرم الشمائل، وذَكَرَت ضروبًا من ذلك، وفي هذا دلالة على أنَّ مكارم الأخلاق وخصال الخير سببُ السلامة من مصارع السوء".
فمَن أراد أنْ يوفِّقه الله تعالى، وييسِّر له أسبابَ النجاح، ويفتح له قلوب الخَلْق، فليلزم هذه الخصال.
لذا يعيش المؤمن الخيرَ في جميع أحواله في سرائه وضرائه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كلَّه خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن إصابته ضراء صبر فكان خيراً له» .
وقد أثنى الله تعالى على نبيه أيوب عليه الصلاة والسلام بقوله: {إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ}؛ وذلك لَـمَّا ابتلاه الله في بدنه وأولاده وماله.
لذلك أرشد الإسلام إلى التحلي بالصبر واحتساب الأجر عند الله تعالى؛ فقد «سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرها نبي الله صلى الله عليه وسلم «أنه كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين؛ فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد».
وهذا ما شهدت به حكيمة قريش أمُّ المؤمنين خديجة بنتُ خويلد لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبلغها رسالته، وقد صَدَقَت فراستُها رضي الله عنها.