ناقشت سورة قريش في القرآن الكريم مشكلة حياتية وهي ( إلف النعمة )، بعدما اعتاد أهل قريش على استقامة مصالحهم ورحلتيهم بالشتاء والصيف دون النظر لواهب هذه النعم ومديمها، وهي القضية التي يغفلها الكثير من المسلمين في عصرنا هذا، نظرا لاستدامة النعمة، من صحة ومال ورزق وأبناء صالحين، ولا يعرف الإنسان قيمة النعمة إلا إذا فقدها، فلا يعرف قيمة الصحة إلا إذا أصابه وجع بسيط في أسنانه على سبيل المثال، فقد يبيت يشكو الليل والنهار لمجرد ألم قليل في أسنانه.
وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على النعمة قائلاً: "من بات آمناً في سربه ، معافاً في بدنه ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
لذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشكر الله على النعمة وشكر الله على دوام النعمة، فلا تألف فتجحد، لكن اشكر الله تزيدك نِعمته، لأن مجرد دوام النعمة نعمة ، وإلف النعمة وعدم شكرها جحود وظلم .
يقولُ الله تعالى {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 1 - 4]..أنظر هذه الآيات تقرر حقيقة ينبغي ألا تغيب عن عبد مسلم، فهي تبينُ أن الإنعام المطلق من الله وإن كان الكلام متعلق بقومٍ معينين و هم قريش ، وإن كان الكلام متعلق بمحِلٍ معين وهم أهل مكة إلا أنها قضية إيمانيةٌ عقدية تتعلق بكل مُنعَم عليه في كل زمانٍ ومكان .
(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ)..هذه الجملة فيها ذكر لنعمةٍ عظيمة أنعم الله بها على قريش، حتى أصبت النعمة مألوفة، لإيلاف هو الإلف والملازمة والعادة لسهولته ، إذا لزم العبد أمراً وألفه واعتاده يكون قد ألفه ، يسمى قد ألف فلان كذا أو يألف فلان كذا فهذا المعنى الأول ( وهو الاعتياد واللزوم للسهولة )..
كانت قريش لا تحسن زراعة لأنها ليس عندها ماء في أرضها ، ولا تحسن صناعة لأنها لم تُؤهل لذلك فلم يكن لها سبيل للعيش إلا التجارة ، وكانت التجارة تقتضي أن يسافروا إلى مسافات بعيدة سواءٌ في وقت الحر إلى البلاد الباردة وهي الشام وفي وقت البرد إلى البلاد الحارة وهي اليمن وما وراءها ... فكانت رحلة الصيف إلى الشام وكانت رحلةُ الشتاء إلى اليمن ، واليمن كانت أرضُ الزراعة والحبوب وأرضُ المصنوعات بما يُجلب إليها مما وراء اليمن من فارس وغيرها التي تسمى إيران الأن ، وأرضُ الشام أرضُ الفاكهة وأرض الحاجات كالطيب وغيره ... فكانوا يذهبون إلى اليمن شتاءً ليأتوا من خيراتها ويذهبون إلى الشام صيفاً ليأتوا من خيراتها ، فكثرت عندهم النعم وعُظمت تجارتهم و تضخم ثرائهم وصارت ممالكهم عظيمة من حيثُ الأموال والأضياع وما شابه.
هذا الأمر كان يقتضي كلما سافروا أن يحاربوا قطاع الطرق ، وأن يحابوا المتربصين والطامعين في أموالهم وتجارتهم ولكنهم كانوا يرون أن هذا الأمر ، أو كانوا يجدون هذا الأمر يقع بسهولة ويسر حتى صار إلف ... و ما السبب الذي جعل الأمر سهلاً يسيراً حتى يلتزم ويُؤلف؟..لقد من الله عز وجل على قريش منن كثيرةً تترا منها مكانتهم التي جعلهم فيها ، جاءت هذه المكانة من أسبابٍ كثيرة منها أنهم أهل البيت ، والمقيمون حوله وأنهم أهل وفادة البيت ويحجُ الناس إليهم فكانوا معظمين من هذه الجهة ، وكانوا قبلة لأن كل الناس كانت تأتيهم في مواسم الحج وما قبلها من اعتمار على طريقتهم.
اقرأ أيضا:
أدرك عمرك قبل فوات الأوان بهذه الطاعات والسبب الثاني : هو ما كان لهم من كرامة بعد أن أهلكَ الله أصحاب الفيل ، فأصحاب الفيل تربصوا بالبيت ولو هدمَ البيت وهلك لأوكلت قريش من كل من حولها لأنها ستصيرُ مداساً بلا كرامة ولا مقام ، فلما أهلك الله أصحاب الفيل كانت تلك كرامة لقريش ، وقالوا إنما نجى الله البيت لكرامته ونجى قريش لكرامتهم ... فصار القاصي والداني والقبائل مع اختلافها والفروع والبطون مع أشكالها ترهبهم وتحترمهم وتقدرهم وتكرمهم...
والسبب الثالث : ما كان لهم من براعة في التجارة مما يحتاجُ إليهم من يبيع ومن يشتري ، فلذلك كانت تجارتهم وكانت قوافلهم لا يجرأُ أحد على التعرض لها إنعاماً من الله وتفضلاً لماذا؟..لأنهم من جهةٍ يحتاجون أن يتعاملوا معهم ومن جهة هم أصحابُ الوفادة في الحج والعمرة ومن جهة هم مكرمون ، الأمراء والسلاطين صاروا ينظرون إليهم بعد حادثة الفيل بمقامٍ عالي فرفع الله عز وجل بذلك شأنهم فكانت رحلاتهم ما لها ؟ ..يعاني كل الناس في رحلاتهم من الصد والمنع والقطع والتعدي والسلب إلا هم، فمَن الله عليهم وذكرهم بذلك فقال ( إيلافهم رحلة الشتاء والصيف )..فرحلة الشتاء والصيف فيها كرامة من جهتين :
الكرامة الأولى : السهولة واليسر وانعدام المنع والصد وهذا لا يملكه إلا الله ، هو الذي جعل لهم مكانة في قلوبِ من حولهم ، وجعل لهم قدراً فيمن حولهم.. فهذا لا يملكه ولا يقدر عليه إلا الله..وإن شئت فقل ذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء...
الكرامةُ الثانية : أنها كانت سبباً للرخاء والرفاه وسبباً لكثرة أموالهم وأرزاقهم حتى أنهم كان عندهم من الأرزاق ما ليست عند من ابتاعوها منهم لأن الكثير يحملوها من أرضها إليهم ليبيعها ويكسبوا فيها ، فرزقهم الله من الثمرات استجابةً لدعوة إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ } [البقرة: 126] أي مكة وهذا ما وقع وكان..
فانتبه أيها المسلم لنعم الله عليك فأنت إذا شبعت وآمنت لا مخوف عندك ولا جوع عندك كان ذلك عنوان سعادتك الدنيوية ، أنت هكذا ملك من ملوك الدنيا حتى إن من الملوك ما يشبع ويخاف ، يخاف من يتربص بملكه غيره.. ليخلعه منه وإن كان عنده من رغد العيش ... لكن هاتان النعمتان ما أجتمع على عبدٍ إلا كان من سعداء الدنيا.. أن يشبع ويأمن ... فبين لهم أنهم ألفوا أمراً لتسهيل الله له عليهم وهي نعمةُ ليست لأحدٍ غيرهم لمكانتهم ، وترتب عليها ثمرة يبحث عنها أهل الدنيا كلهم وهي الإطعام من الجوع والأمن من الخوف.