لا يوجد خسارة أو هزيمة تضاهي هزيمة الإنسان أمام نفسه وشهواته، فأكثر ما يحط من قوة الإنسان، وتجعل هذه القوة تنهار، هي أن يقف عاجزا أمام نفسه، لا يعرف كيف يسيطر عليها، أو يسيطر على مشكلاته النفسية، التي قد تنتج من البطالة أو الفشل أو الضغوط الحياتية، أو اجتماع أعدائه عليه، فليس بالغريب ما يحدث الآن من تخذيل وبث الوهن في النفوس على أصعدة كثيرة، لاسيما بعد المعارك الحاسمة، التي تحاك ضد المسلمين، سواء العسكرية أم الفكرية والثقافية وغيرها من حروب بين فريقي الحق والباطل.
فقد يكون خذلان شخصية المسلم في هذه الظروف نتاج طبيعي للضغوط الحياتية التي نعيش فيها كمسلمين على مستوى الفرد والجماعة، الأمر الذي يؤدي لفقدان هويته كمسلم أمره ربه سبحانه وتعالى أن يتسلح بالإيمان والقوة الروحية في مواجهة كلما يحاط به.
وقد ضربت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم المثل في مواجهة كل الظروف النفسية التي يعيش فيها المسلم، بل أن هذه الظروف لا تمثل نقطة في بحر ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم، من حرب قريش عليه وإهانتهم له، وتوحيد صفوفهم ضده، وهو ماحدث من قبل مع أنبياء الله الكرام، لاسيما أولي العزم منهم، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام. حيث كانت ردود أفعالهم هي نفسها لم تتغير، ولن تتغير مع أصحاب الحق والإيمان، في أي زمان ومكان.
كيف تنهض بعد الهزيمة؟
بعد أن أصاب المسلمون ما أصابهم في غزوة أحد ، وكثرة من استشهدوا وجرحوا يومها، غادرت قريش بزعمائها وفرسانها أرض المعركة، على غير عادة العرب حينذاك.
وكانت العادات الحربية تقتضي بقاء المنتصر في ميدان المعركة عدة أيام، يحتفل خلالها كنوع من تبليغ رسالة إلى كل من وضع أو سيضع في حسبانه وحساباته، الاعتداء على المنتصر بأي نوع من أنواع الاعتداءات، حتى تبقى الهيبة موجودة حاضرة له. وهكذا كانت العادة.
لكن في موقعة أحد ، غادر المشركون سريعاً أرض المعركة. ففي موقع ما بين مكة والمدينة، قال القرشيون لبعضهم البعض: لم تفعلوا شيئاً، وما أردفتم الأبكار، ولا قضيتم على محمد وأصحابه، فما صنعتم شيئاً. فهموا بالرجوع إلى المدينة، من أجل أن يستأصلوا المسلمين. أو هكذا زين لهم الشيطان أعمالهم.
وبالرغم من الهزيمة التي لاقاها المسلمون، وفي الوقت الذي يضمد فيه كل صحابي جراحه، لم يكن يغيب عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، مثل هذه التكتيكات الحربية.
لم تغب شمس ذلك اليوم حتى استنهض النبي صلى الله عليه وسلم صحابته وهو يتهيئون لأخذ قسط من الراحة، حتى نادى بالغد في كل من كان معه، أن يهيئ نفسه لمتابعة قريش وقتالهم من جديد، وردعهم من التفكير في غزو المدينة.
وضرب لذلك موعداً يلتقي فيه مع قريش في موقع يقال له حمراء الأسد.
ويبدو أن خبر ذلك الأمر المفاجئ وصل بصورة ما إلى أبي سفيان، قائد المشركين يومها، ومدى تأثير ذلك عليه ومن معه.
لجأ أبو سفيان إلى الإشاعات والحرب النفسية لأجل التوهين من عزائم المسلمين، الذين لم تبرئ جراحهم أو تبرد أجسامهم بعد، وذلك لأجل إحداث نوع من التردد عن الخروج مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
واستخدم لذلك الغرض أناساً همهم المال، والمال فقط، كعادة كثيرين اليوم، ممن يتم استخدامهم لذات الأغراض، مقابل تأجير أقلامهم أو عقولهم للغير!
اقرأ أيضا:
قبل أن تتحول نعمتك وتزول عافيتك.. كيف تجلب بيدك النقمة إليك؟حسبك الله
مرت قافلة من عبد القيس. فقال لهم أبوسفيان : أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة. قال: ولم؟ قالوا: نريد الميرة. قال: فهل أنتم مبلَّغون عني محمداً رسالة أرسلكم بها، وأحمِّل لكم إبلكم هذه غداً زبيباً بعكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا: نعم. قال: فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم. فمرت القافلة برسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم وأصحابه: حسبنا الله ونعم الوكيل .
هكذا كان جوابهم على من أراد الفت في عضدهم، وصناعة فتنة في صفوف المسلمين. قالوا جميعاً ما قاله من ذي قبل، خليل الرحمن وإخوانه من الأنبياء الكرام، في الأزمات والملمات العظيمة، ويصف القرآن هذه الحادثة بقوله تعالى (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل).
ولن يخيب من يلجأ إلى الله في أزماته ومشكلاته ومصائبه. فلم يهتم المسلمون بخبر إعداد قريش العدة لاستئصالهم هذه المرة، بل رغم ما بهم من جراحات وآلام، لم يدعوا الشيطان يفت في عضدهم ويوهن من إيمانهم وعزيمتهم، وقالوا جميعاً بصوت واحد، حسبنا الله ونعم الوكيل.
لا تستسلم لأولياء الشيطان عليك
حينما تخور قواك ينتهز الشيطان الفرصة ليجهز عليك مرة واحدة، بحيث لا تقوم لك قائمة بعدها، فوقتها يضخم الشيطان من شأن أوليائه، ويلبسهم لباس القوة والقدرة، ويوقع في القلوب أنهم ذوو حول وطول، وأنهم يملكون النفع والضر.. ذلك ليقضي بهم لباناته وأغراضه، وليحقق بهم الشر في الأرض والفساد، وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب، فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار ولا يفكر أحد في الانتقاض عليهم، ودفعهم عن الشر والفساد.
والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل، وأن يتضخم الشر، وأن يتبدى قوياً قادراً قاهراً بطاشاً جباراً، لا تقف في وجهه معارضة، ولا يصمد له مدافع، ولا يغلبه من المعارضين غالب.
فالحل أن يلجأ الإنسان لربه فهو صاحب القوة الوحيدة التي يراها المؤمنون الصادقون والتي أحق بأن تُخشى وتُخاف، هي القوة التي تملك النفع والضر، وهي بلا شك قوة الله، لا قوة الشيطان ولا قوة أوليائه.