نفشل في بعض الأوقات عن التعبير بما يليق بنا، فلا نخير ألفاظنا، ونعطي انطباعا سيئا للناس من حولنا لمجرد كلمة قد تلقي بنا سبعين خريفا في الناء، ولما لا وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين من خطورة الكلمة، حينما وصفت بعض النساء بقصر قامتها، بالرغم من أنها لا تقصد الإساءة إليها، ومع ذلك نهاها النبي عن ذلك، في الوقت الذي لا ننهى أنفسنا عن أن نسب هذا ونلعن ذاك، ونخوض في عرض هذه.
وبعض الناس لا يحلو له التحدث إلا بما ساء وخبث من الحديث، فلا يدلل على كلامه بقرآن يتلى أو بحديث نبوي يبين، ولكن لا يتكلم إلا نكدا، ولا يتلفظ إلا بما هو سيئ، ولا يفتح فمه إلا ويخرج خبثه، الأمر الذي يسيئ إليه وإلى شخصيته، وينفر منه.
وقد اعتنى القرآن بما يليق ببني آدم من القول والعمل، ودل أصحاب العقول الراجحة من الأكابر والعلماء، على حسن اختيار الألفاظ إذا وُجِد طريقان مُوصّلان إلى مطلوب، فمن الحكمة أن يسلُك المرءُ الطريق السهلة، أما الذي ينعرج إلى الطريق الوعرة، كثيرة الأخطار والعقبات، فأحدُ رجلين: إما جاهل، وإما أحمق متهور.
فليس من الحكمة أن يلجأ المتكلم إلى الألفاظ القبيحة أو الخشنة الوعرة، بالرغم من أن الأسهل موجود، فالقول الحسن أبعد لنزغ الشيطان، وأقرب لقبول الحق، بل لقبول المَقُولِ مطلقاً، وكم من باطل يزينه الرجلُ بحسن لفظه، وحلاوة منطقه، والتلطف في مقصده، فيُبرزه في صورة الحق فيُقبل.
وكم من حق يخرجه صاحبه بصورة فظة وسوء تعبيره في صورة مشوهة قبيحة فيُرَد، "ومن تأمل المقالات الباطلة، والبدع كلها، وجدها قد أخرجها أصحابها في قوالب مستحسنة، وكسوها ألفاظاً يقبلها بها من لم يعرف حقيقتها.
يقول الشاعر :
تقــــول هـذا جناءُ النحل تمدحُه *** وإن تشأ قلتَ ذا قـيءُ الزنابير
مدحاً وذماً وما جاوزتَ وصفَهما *** والحـقُّ قد يعتـريه سوءُ تعبيرِ
وانظر لأدب سيدنا العباس رضي الله عنه حينما سئل : أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو أكبر مني، وأنا ولدت قبله.
وكان لبعض القضاة جليس أعمى، وكان إذا أراد أن ينهض يقول: يا غلام، اذهب مع أبي محمد، ولا يقول: خذ بيده، قال: والله ما أخلَّ بها مرة.
ويقول الله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء: 53].
وفي الصحيحين من حديث سهل بن حنيف، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي»، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظ (الخبث) لبشاعته، وأرشدهم إلى العدول إلى لفظ هو أحسن منه، وإن كان بمعناه تعليما للأدب في المنطق، وإرشاداً إلى استعمال الحسن، وهجر القبيح من الأقوال، كما أرشدهم إلى ذلك في الأخلاق والأفعال".
وكان النبي صلى الله عليه وسلم والسلام يميل إلى التعريض عوضاً عن التصريح في بعض مقامات الإنكار.
و المتأمل للنسق القرآني يجد كل هذا فيه وأكثر، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا ﴾ [الأعراف: 189]، وقوله: ﴿ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ ﴾ [النساء: 43]، وقوله: ﴿ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ ﴾ [النساء: 43]، ومثل هذا كثير.
لذلك حينما يتعلم الإنسان اللغة ويرتبط بكلام خالقه جل وعلا تعلو مداركه وتتهذَّب طباعه، حتى الإمام الشافعي يقول: "من نظر في اللغة رقَّ طبعه"، فتجمَّلوا في اختيار كلماتكم، فليس الجمال جمال الظاهر فقط، بل جمال الداخل له أثر كبير، وما أفضل من جمع بينهما.