لا يقاوم أحد على وجه الأرض سحر الإعلام وبريق الشعراء والمداحين، فدائمًا ما يعجب الإنسان ويتخايل بجسده وبنفسه حينما يمتدحه أحد، فما بالك إذا سلط الإعلام الضوء عليه، وهلل لما يفعله سواء كان نفاقا أو كذبا، فسرعان ما يتحول هذا المعجب بنفسه، بعد امتداح الإعلام والشعراء له، إلى إنسان متسلط، لا يرى أحدا مساويا له على الأرض، كما أنه لا يثقبل أن يناقشه أحد أو يعارضه، بل إنه يعد نفسه ملهما ومؤيدا، وحكيما، وقد يقارن بينه وبين الأنبياء.
فقد كانت فتنة الشيطان أنه أعجب بنفسه، فقد كان كما ورد في الأثر يطلق عليه طاووس الملائكة، ولماخلق الله سبحانه وتعالى آدم من تراب وأمر الملائكة أن يسجدوا له، تكبر إبليس، وقال كيف أسجد لآدم وقد خلقته من طين وخلقتني من نار، فكان جزاؤه الطرد من رحمة الله.
وفرعون ذلك الإنسان الطاغية، الذي خيل له أنه إله، يملك حق استعباد البشر، فيقتل من يشاء، يستبيح من خلق الله كيفما يشاء، ويدعي الحكمة والمعرفة، وإنما كان هذا لإعجابه بنفسه، فكان يخاطب قومه قائلا: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ، فاحتكر المعرفة، والحكمة وحجبها عن قومه مستغل القوة التي تمتع بها وجيش الجرار، وتسلط على العباد، وحالة الضعف والخوف التي كان يعيش بها قومه، فلم يجرئ أحد على مخالفة أمره، فأصبحوا بلا رأي "إمعة" وصفهم القرآن الكريم "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ".
فتنة الشعراء
قد يكون تصور الإنسان عن نفسه عاديا، حتى ولو كان حاكما أو سلطانا، حتى يأتي من يرده عن هذا التصور، ويبدأ في نسج خيوط الكبر لهذا الحاكم أو السلطان، ويصور له إنه إله، من خلال ما يكتبه أو ما يمتدحه أو ما ينصح به له.
وقد كانت هذه المهنة في القديم، هي مهنة الكهنة، ومن بعدهم الشعراء، الذين كانوا يتقربون للملوك بشعرهم ومدحهم، لذلك حذر منهم ربنا سبحانه وتعالى وقال في سورة الشعراء: «والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون».. (سورة الشعراء).
وقد أجمع المفسرون على أن المقصود في الآيات شعراء الكفار الذين كانوا يهجون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتكلموا بالكذب وبالباطل، وقالوا: نحن نقول مثل ما يقول محمد، ولكنهم قالوا الشعر، وقد كان نفر من الشعراء بمكة يهجون النبي صلى الله عليه وسلم، وكان المشركون يعنون بمجالسهم وسماع أقوالهم ويجتمع إليهم الأعراب من خارج مكة يستمعون أشعارهم وأهاجيهم، ويروون عنهم.
اظهار أخبار متعلقة
كيف كان حال شعراء النبي؟
كان هناك شعراء حول النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يمتدحونه ولكنه لم يفتتن بهم، بل كان يسخر شعرهم للدفاع عن الإسلام وعن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يردون على شعراء المشركين وهجوهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن بين هؤلاء الشعراء الذين التفوا حول النبي، ثلاثة من الأنصار: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، فكان حسان وكعب يعارضانهم، في الوقائع والأيام والمآثر، ويذكرون مثالبهم، وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر وبعبادة ما لا يسمع ولا ينفع.
وكان كعب بن مالك يذكر الحرب يقول: «فعلنا ونفعل» ويتهددهم، وكان حسان بن ثابت، يذكر عيوبهم وأيامهم، وأما عبد الله بن رواحة فكان يعيرهم بالكفر، وقد أسلمت دوس خوفاً من بيت قاله كعب:
نخيرها ولو نطقت لقالت
قواطعهن دوساً أو ثقيفا
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان بن ثابت: «اهجهم أو هاجهم وجبريل معك»، وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله يضع لحسان بن ثابت منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً يفاخر عن رسول الله أو ينافح عن رسول الله»، ويقول رسول الله: «إن الله يؤيد حسان بروح القدس، ما ينافح أو يفاخر عن رسول الله».
وحين نزلت الآيات من سورة الشعراء جاء حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يبكون، فقالوا: «قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنّا شعراء»، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيراً، وانتصروا من بعد ما ظلموا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).
ويروي أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه ويقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله
اليوم نضربكم على تنزيله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر رضي الله عنه: «يا ابن رواحة بين يدي رسول الله، وفي حرم الله تقول الشعر؟»، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خلّ عنه يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نضح النبل».
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: «أصدق كلمة، أو أشعر كلمة قالتها العرب كلمة لبيد: «ألا كل شيء ما خلا الله باطل»، وكان يستنشد شعر أمية بن أبي الصلت لما فيه من الحكمة وقال: «كاد أمية أن يسلم»، وأمر حسان بن ثابت بهجاء المشركين وقال له: قل ومعك روح القدس».
كعب بن مالك
وكان كعب بن مالك شاعراً معروفاً في الجاهلية، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم عرفه بصفته هذه حين التقاه قبل بيعة العقبة، وقد دخل كعب والبراء بن معرور على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه في الكعبة، ولم يكونا قد عرفا النبي صلى الله عليه وسلم ولا رأياه من قبل، وقيل لهما: إنه الجالس مع عمه العباس رضي الله عنه في المسجد، يقول كعب: «وقد كنا نعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجراً، فدخلنا فسلّمنا ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا فضل؟، قال نعم: هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك، يقول كعب: فو الله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشاعر؟، قال العباس: نعم».
وفي الإسلام أصبح كعب أحد الشعراء الثلاثة الكبار الذين جاهدوا في سبيل الدعوة الإسلامية وناصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودافعوا عنه في مواجهة الهجمات الشرسة التي قادها ضده شعراء الوثنية والشرك في مكة، فكان كعب يهجو مشركي قريش، ويخوفهم الحرب، ويبرز بطولات المسلمين، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تستحسن شعر كعب وترويه.
وكما نافح كعب عن رسول الله وعن الإسلام بالكلمة فقد دافع عنهما بالسلاح، فشهد المواقف كلها، ولم يتخلف عن غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مع خلفائه الراشدين، ولكنه لم يشهد غزوة بدر، ولم يعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أحداً تخلف، وكان كعب يقول: «لعمري إن أشهر مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس لبدر، وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حيث توافقنا على الإسلام».
وظل كعب يجاهد في سبيل الله، بالسيف والقلم، لا يتخلف عن قتال أبداً، فحارب المرتدين في عهد أبي بكر الصديق، وشارك في الفتوحات الإسلامية على عهد الفاروق عمر، حتى أول خلافة معاوية رضي الله عنهم جميعاً.