أحل الله لعباده أن يأكلوا ويشربوا ولكن بشرط ألا يسرفوا، خاصة وأن هناك ملايين من الفقراء بل مليارات، قد استودع ربنا سبحانه وتعالى رزقهم عند الأغنياء، ولكنهم فكروا كما فكر قارون وقالوا كما جاء على لسانه في سورة "القصص": "قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) ".
و جاء في صحيح البخاري عن خولة بنت عامر الأنصارية، وهي امرأة حمزةَ رضي الله عنهما، قالت: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول:” إن رجالاً يتخوّضونَ في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة “.
ومعنى يتخوّضون أي يتصرفون في الشيء بالباطل ويسرفون في الإنفاق بغير ما أومروا به.
وقد نبه الحديث الشريف على خطورة التصرف الطائش في المال، فقد يكون على شكل إدارة غير واعية ولا علمية ولا مدروسة لهذا المال، أو تبذيره على ما لا نفع يُرجى من ورائه، أو سرقته واستغلاله بطريقة وأخرى، أو الانتفاع به دون وجه حق، أو غير ذلك من أوجه التصرف غير الجائز شرعاً وقانوناً وعُرفاً.
ويحذر النبي صلى الله عليه وسلم من أناس يتصرفون في أموال المسلمين بالباطل، ويأخذونها بغير حق.
وأموال المسلمين يدخل فيها كل ما يمكن تصنيفه تحت بند المال الذي استأمنك الله عليه أو مصطلح ( المال العام ) أو كما جاء في الحديث ( مال الله )، وهو كل إيرادات الدولة، أو كل ما يدخل خزينة الدولة عبر مؤسساتها المختلفة، من رسوم الخدمات والضرائب والثروات العامة.
ومنها أموال اليتامى والأوقاف والزكوات والصدقات التي تقوم عليها الجمعيات والهيئات الخيرية. كما تدخل ضمن المال العام كذلك، الهبات والعطايا لموظفي الدولة. كل ما سبق ذكره يدخل تحت مسمى مال الله أو المال العام بالمصطلح المعاصر، وبالتالي ووفق الحديث الشريف، لا يجوز التصرف فيه إلا بحقه.
فالإسراف في هذا المال، كما جاء في الحديث، والتخوض فيه أي الأخذ منه بغير استحقاق ولا إذن، عاقبته كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم، النار يوم القيامة.
فالمال العام في الإسلام، له حرمة، بل يكاد يكون مقدساً من شدة اهتمام الإسلام به، وأهمية إدارته بشكل صحيح، من حيث جمعه وإنفاقه والحفاظ عليه واستثماره، ومنع كل من تسول له نفسه الاعتداء عليه، حتى لا يجعله عُرضة للهدر والضياع.
اقرأ أيضا:
بشريات كثيرة لمن مات له طفل صغير.. تعرف عليها وحين توعد النبي صلى الله عليه وسلم المتخوّض في المال العام أو المتصرف فيه بغير وجه حق، ليصل مصيره أن يكون من أهل النار، فلأن الأمر شأنه عظيم، لا يتحمل استهتار وما شابه من سلوكيات تبدد ذلك المال وتضيع حقوق العباد والبلاد.
ويعتبر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز نموذجاً فريداً في الإدارة الصارمة العادلة للمال العام، وكيف لا وجده الأكبر هو الفاروق عمر بن الخطاب، الذي كان أول من أنشأ بيت مال للمسلمين، وأول من استحدث فكرة الذمة المالية للولاة أو المسؤولين، والذي كان – رضي الله عنه – يتعامل مع المال العام كمن يتعامل مع مال اليتيم، حيث قال يوماً: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن احتجتُ أخذتُ منه، فإذا أيسرتُ رددْتُه، وإن استغنيتُ استعففتُ “.
وعمل عمر بن عبد العزيز، على تطويق قضايا الفساد الإداري والمالي في الدولة وبدأ في انتقاء ولاته والعاملين معه من أهل التقوى وحُسن التدين والأمانة. ثم التوسعة على الموظفين في معاشاتهم كأول إجراء إداري. حيث رأى في ذلك الإجراء وقاية لهم من الخيانة، رغم تقتيره على نفسه وأهله، وهو أمير للمؤمنين. ثم منع الموظفين من قبول الهدايا، وقد رد على من قال له: ألم يكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقبل الهدية ؟ قال بلى، ولكنها لنا ولمن بعدنا رشوة.
كما منعهم كذلك من ممارسة التجارة، إدراكاً منه أن ممارسة الموظفين والولاة للتجارة، لا تخلو من أحد أمرين، إن لم يكن الاثنان معاً: فإما أن ينشغل في تجارته ومتابعتها عن أمور واحتياجات المسلمين، وإما أن تحدث محاباة له في التجارة لموقعه، ويصيب أموراً ليست له من الحق في شيء.
وقد ردّ أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – لما حضرته الوفاة، كل ما زاد عنده إلى بيت المال. عن الحسن بن علي – رضي الله عنهما – قال: لما احتُضِرَ أبو بكر – رضي الله عنه – قال:” يا عائشة، انظري اللِقحة التي كنا نشرب من لبنها، والجفنةَ التي كنا نَصطَبحُ فيها، والقَطيفة التي كنا نلبسُها، فإنّا كنا ننتفعُ بذلك حين كنا في أمر المسلمين، فإذا مِتُّ فاردُديه إلى عمر “.
فلما مات أبو بكر رضي الله عنه أرسَلت بِه إِلى عمر رضي الله عنه فَقال عمر:” رضي الله عنك يا أبا بكر، لقد أتعبتَ مَن جاء بعدك “.