وفي الحديث كن في الدنيا كعابر كأنك غريب أو عابر سبيل، وقد وصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم حال الدنيا في حديث طويل يقول فيه: [إنَّما مثلي ومثلُكم ومَثلُ الدُّنيا، كقوم سلكوا مفازةً غبراءَ، حتّى إذا لم يَدْرُوا ما سلكوا منها أكثر، أو ما بقي، أنفدوا الزَّادَ، وحَسَروا الظَّهر، وبقُوا بين ظهراني المفازة لا زادَ ولا حَمُولة، فأيقنوا بالهَلَكة، فبينما هم كذلك، إذ خرج عليهم رجلٌ في حُلَّةٍ يقطُرُ رأسُه، فقالوا: إن هذا قريبُ عهدٍ بريفٍ، وما جاءكم هذا إلاّ من قريبٍ، فلما انتهى إليهم، قال: علام أنتم ؟ قالوا: على ما ترى، قالَ: أرأيتُكم إنْ هديتُكم إلى ماءٍ رواء، ورياضٍ خُضر، ما تعملون ؟ قالوا: لا نعصيك شيئاً، قال: عُهودَكم ومواثيقكم بالله، قال: فأَعْطَوهُ عهودَهُم ومواثيقهُم بالله لا يَعصُونَه شيئاً، قال: فأوردهم ماءً، ورياضاً خُضراً، فمكث فيهم ما شاء الله، ثم قال: يا هؤلاء الرحيلَ، قالوا: إلى أين ؟ قال: إلى ماءٍ ليس كمائكم، وإلى رياضٍ ليست كرياضِكُم، فقال جُلُّ القوم - وهم أكثرهم -: والله ما وجدنا هذا حتّى ظننّا أنْ لن نَجِدَهُ، وما نصنع بعيشٍ خيرٍ من هذا ؟ وقالت طائفة - وهم أقلهم -: ألم تُعطوا هذا الرَّجُلَ عهودكم ومواثيقكم بالله لا تَعصونه شيئاً وقد صدقكم في أوّل حديثه، فوالله ليصدقنَّكم في آخره، قال: فراح فيمن اتبعه، وتخلَّف بقيتهم، فنذر بهم عدوٌّ، فأصبحوا من بين أسيرٍ وقتيل].. فهذا الحديث يؤصل جدًا ويصف واقعنا بشكل كبير وفيه الداء وفيه الدواء فالدنيا لا تستحق أن تأخذ أكبر وضعها ولا تستحق أن نعادي ونوالي من أجلها .. كما أن حقيقتها ابتلاء جعلها الله مزرعة للآخرة وحذرنا من الانسياق وراءها قال تعالى: "وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا..".
وقال تعالى: مبينًا حقيقة الدنيا: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ".
كيف أتعامل مع هذه الدنيا؟
فالمؤمن الواعي هو من يدرك حقيقة الدنيا ويتعامل معها لا على خوف وحذر ولكن بوعي وبصيرة فلا ينصهر فيها ولا يبتعد عنها ابتعادا يعوه لهجرانها وعدم إعمار الكون .. لكنه يوازن بين أحواله فيسعى لتحصيل الخير ويصبر على ما يصيبه من بلاء راجيا ثواب الله ورضاه.. كما أنه يستنير في سيره بسير الصالحين ويقف على مآثرهم وكيف كانوا يروضون رغباتهم وشهواتهم فكانت الدنيا أمامهم لا تساوي شيئا حيث إنهم وضعوها في موضعها الأصلي دون إفراط أو تفريط وبهذا خرجوا منها ولم يركنوا إليها ولم تلوث معادنهم الأصيلة فاستحقوا أن يكونوا أمثلة ساطعة وقدوة عملية.