عصم الله الأنبياء من المعصية، وطهرهم الله عز وجل من الدنس ومن رجس الشيطان وشركه ووساوسه، وبالرغم من هذا لم نجد أحد لجأ للاستغفار بمثل ما لجأ الأنبياء كلما ضاقت عليهم الأرض خلال مراحل الدعوة إلى الله، فقد كان الاستغفار هو دينهم الذي عرفوا مناقبه وأسراره، فرغبوا أقوامهم إليه، ودلوهم عليه، فنجد نوح عليه السلام يرغب قومه في التوبة من الشرك ومن الإعراض عن رسالة السماء وشرائع الرحمن, والمسارعة إلى الاستغفار بتوضيح ثمرات الاستغفار العاجلة والآجلة, والتي منها نزول الخير والبركات من السماء والبركة في النسل والذرية والأموال والثمار ثم حسن المآل في الآخرة بدخول الجنة .
قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12) } [ نوح]
الاستغفار سنة الأنبياء
فمن أسرار الاستغفار ندمٌ واعتذار، وتذللٌ وانكسار، و هو دأب المؤمنين الأبرار، وسبيل الصالحين الأخيار، فقال جل وعلا: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64].
والاستغفار سنة الأنبياء والمرسلين المستقدمين منهم والمستأخرين، وأول من استغفر أبوينا أدم وحواء: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
وهذا نبي الله نوح يستغفر لنفسه ولوالديه ولكل مؤمن ومؤمنة: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28].
وها هو إبراهيم عليه السلام يستغفر لنفسه ولأبيه قبل أن ينهى، ولكل مؤمنٍ سابق ولاحق: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41].
وها هو نبي الله موسى عليه السلام يستغفر الله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16].
وها هو نبي الله داود يستغفر: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24].
وها هو نبي الله سليمان يستغفر: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35].
استغفار النبي
وها هو خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم يأمره ربه جل وعلا بالاستغفار لنفسه وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19].
وامتثل صلى الله عليه وسلم الأمر، فكان يستغفرُ اللهَ في اليوم أكثرَ من مائة مرة، مع أنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى قد غفرَ له ما تقدمَ من ذنبه وما تأخر، وما من نبي إلا وأمرَ قومهُ بالاستغفار: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [هود: 52]، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10]، {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46].
ووصفَ ربُنا الكريمُ نفسهُ في كتابه العظيم, بأنهُ غافِرٌ, وبأنهُ غفورٌ، وبأنه غفَّارٌ، وبأنه ذو المغفرة، وبأنهُ واسِعُ المغفرة، وبأنهُ أهلُ المغفرة، وبأنهُ يغفرُ الذنوبَ جميعًا، وبأنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
ودعا الله عبادهُ للمغفرةِ وطالبهم بها, فقال جلَّ وعلا: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 221]، وقال عزَّ وجلَّ: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ} [إبراهيم: 10]، وقال جلَّ وعلا: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135]، وقال تبارك وتعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد: 21]، وقال عزَّ وجلَّ: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46]، وقال سبحانه: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199]، وقال جلَّ وعلا: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 74].
وفي الحديث القدسي الصحيح: "يا عبادي، إنكم تُخطِئون بالليل والنهار، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعًا، فاستغفروني أَغْفِرْ لكم".
وقال جلَّ وعلا: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]، وقال عزَّ وجلَّ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]، وقال تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 9]، وقال الكريمُ الرحيمُ سبحانه: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110].
وفي الحديث الحسن: قال الربُّ عزَّ وجلَّ: «وعزتي وجلالي، لا أزالُ أغفرُ لهم ما استغفروني».
وعَنْ أمنا عَائِشَةَ، قَالَتْ: "مَا جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسًا قَط، وَلاَ تَلاَ قُرْآنًا، وَلاَ صَلى صَلاَةً إِلا خَتَمَ ذَلِكَ بِكَلِمَاتٍ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَاكَ مَا تَجْلِسُ مَجْلِسًا، وَلاَ تَتْلُو قُرْآنًا، وَلاَ تُصَلِّي صَلاَةً إِلا خَتَمْتَ بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ.. قَالَ «نَعَمْ، مَنْ قَالَ خَيْرًا خُتِمَ لَهُ طَابَعٌ عَلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ، وَمَنْ قَالَ شَرًّا كُنَّ لَهُ كَفارَةً: سُبْحَانَكَ [اللهُم] وَبِحَمْدِكَ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ» والحديث حديثٌ صحيح.
اقرأ أيضا:
أفكار الحسد تسيطر علي.. فما هي أعراضها وعلاجها؟الاستغفار تفريج للهموم
فاستغفر أيها المؤمن كلما ضاقت في وجهك وغلقت أمامك الأبواب، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
فمن أراد الأمن والأمان ودفع البلايا والشرور والفتن، فعليه بالاستغفار؛ قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33].
من أراد نماء الأموال, وكثرة النسل وصلاح الأحوال, وبركة الارزاق والثمار، فعليه بالاستغفار، قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا}، ومن أراد الصحة والقوة والعافية، والسلامة من الأمراض والأوبئة، فعليه بالاستغفار، قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52]، ومن أراد الحياة الطيبة، وسعادة الدنيا والآخرة، فعليه بالاستغفار، قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52].