ما دام أنه عدو لك مُعْلِن العداء، فلا يجوز لك أنْ تهادنه أو تستكين له وتطيعه؛ لأنك حين تطيعه يستمرىء عداوته ضدك، إذن: لا بُدَّ أنْ تعاديه، وأنْ تُوفقه عند حدِّه، كيف؟ أضعف الإيمان أنْ لا تطيعه، فإنْ أردتَ أن تكون أقوى منه فانتقم منه وغِظْه بأنْ تتجه إلى مقابل ما يطلب منك، فهو يأمر بالسوء، فافعل أنت الحسن يأمرك بالشر، فاجتهد في الخير، وكأنك تسخر منه وتُلقِّنه درساً لا يملك بعده إلا أنْ ينصرف عنك؛ لأنك وظَّفْتَ عداوته لصالحك وانتفعتَ بها، وهذا ما يغيظه.
كيف تكون أقوى من الشيطان؟
وتستطيع أنْ تأخذ بهذا المبدأ مع أيِّ عدو آخر، سواء أكان من شياطين الإنس أو شياطين الجن، تستطيع أن تجعل من عداوته لك حافزاً على الخير وعلى عشق كل ما هو جميل، فالعاقل مَن استفاد من عدوه أكثر من استفادته من صديقه.
فالمؤمن الحق يستطيع أن يستفيد من عداوة أعدائه في نواحٍ كثيرة، فهو مثلاً يعمل ويجتهد ليتفوق على عدوه، لا أنْ يتكاسل حتى يكون دونه منزلةً ومرتبةً، يجتنب المعايب وأفعال السوء حتى لا يعطي لعدوه فرصة أنْ يشمت فيه.. إلخ.
كذلك نقول: إن بعض الصفات المذمومة في الناس فيها جوانب خير لو تأملناها، فالبخيل مثلاً مكروه من الجميع، لكن حين تتأمل وضعه تجده هو الذي يُعين الكريم على كرمه، كيف؟ رأينا كثيراً في القرى هذا النموذج: رجل كريم لا يساعده دَخْله على القيام بمتطلبات هذا الكرم وتبعاته من السماحة والبذل والعطاء والمجاملة.. إلخ، فكان كل فترة يبيع قطعةَ أرض لينفق منها، فلمَنْ يبيع الكريم أرضه إذا لم يكن هناك البخيل الممسك؟ فكأن البخيل يعين الكريم على كرمه.
وإذا كان الكريم يأسرك بكرمه وتدان له بجميله، فليس للبخيل جميل عليك، ولست أسيراً له في شيء؛ لذلك عَبَّر الشاعر عن هذا المعنى، فقال: جُزِيَ البخيلُ عَلىَّ صالحةً منِّي لخِفَّتِهِ على ظِهْرِي يعني: ليس له جميل عندي يجعلني عبداً لإحسانه.
ومعنى { فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } [فاطر: 6] أن تشحن كل طاقاتك وكل مواهبك لتربِّي فيك المناعة اللازمة ضد إغراءاته ووسوسته لك بالسوء، فإنْ أردتَ الارتقاء في مناهضته، فزِدْ من الحسنات التي يكرهها، فإنْ جاءك في الصلاة ليفسدها علَيك فَغِظْه بأنْ تخشع فيها، وتزيد في تحسينها.
{ إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [فاطر: 6] يعني: أصبح له حزب وجماعة يحاول أنْ يُكثِّرها؛ لذلك قال تعالى في موضع آخر: { ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ } [المجادلة: 19].
ومعنى حزب: جماعة تعصَّبوا لفكرة يعملون من أجلها في مقابل جماعة أخرى لهم مناهضات، ويعملون هم أيضاً لفكرة تخدمهم.
والعِلَّة في أنه يدعو حزبه ليكونوا كثرة فيكثر المتخبطون في منهج الله والخارجون عنه في مقابل الإيمان والطاعة، هذه هي العلة.
أما قوله تعالى { لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [فاطر: 6] فاللام هنا لام العاقبة ومعناها: أنك تريد الشيء لعلة، لكن تنتهي إلى علَّة أخرى ضد مطلوبك.
وقوله: { مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [فاطر: 6] دلَّ على أن بينهم وبين النار أُلْفة، وأنها تريدهم وتعشقهم حتى صارتْ بينهما مصاحبة.