الصبر عنوان كبير للابتلاءات التي تعرض لها الأنبياء وعباد الله الأتقياء، إلا أن هناك عنوانًا آخر يختلف عما عرفناه عن الصبر بكافة أشكاله على البلاء، هذا العنوان جاء في سيرة سيدنا إبراهيم عليه السلام، الذي تحول الصبر عنده من معناه الذي نعرفه بتحمل البلاء طمعًا في نيل الثواب، إلى الرضا فرحًا بالابتلاء، حيث كان خليل الله يعتبر هذا الابتلاء اصطفاءً له، ورفعًا لدرجاته، فكان أدعى بأن يكون زكاة له بأن يتم اختياره أبًا لجميع الأنبياء، فتوارث أبناؤه من بعده النبوة جيلاً من بعد جيل، حتى توجه ربه عزو وجل بأن يجعل آخر نسله الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
بعث الله تعالى إبراهيم إلى قومه ليدعوهم إلى الله تعالى، فلم يستجيبوا له، وردّوه الرد السيئ، ولقد تتالت عليه الابتلاءات، وتكاثرت عليه المحن، وعرَّض نفسه للهلاك في سبيل العقيدة التي آمن بها، وكانت حياته سلسلة تضحيات لربه فضرب بعمله مثلاً حياً لكافة الأمم من بعده على الإخلاص والتفاني في محبة الله.
ابتلي الخليل عليه السلام بأنواع من الابتلاء، وامتحن بضروب من الامتحان، فصبر، وكان في إيمانه مثل الجبال الرواسخ، ولم يتزعزع، ولم يضطرب، ولم يدخل إليه وهن أو ضعف، وكان أشد هذه المحن عليه حين أمر بذبح ولده إسماعيل، ولكنه كان مثالاً للعبودية والطاعة والإذعان لأوامر الله.
ابتلاءات إبراهيم
ابتلاءات إبراهيم كانت مختلفة عن غيرها في شكلها الذي حل بباقي الأنبياء، وفي صبره عليها، وقد بدأت منذ أن كان شابا صغير يرفض بفطرته السوية أن يسجد أو يعبد الأصنام، وقيل أن عمره كان 16 عاما، فجزاء الكفار على تمرده على آلهتهم التي لا تنفع ولا تضر، أن ألقوه فى نيران أشعلوها 30 يوما لدرجة أن الطيور هجرت الأشجار خوفا من لفح النيران فقال القرآن الكريم عنها (فألقوه فى الجحيم).
ماذا فعل إبراهيم مع هذا البلاء؟
نزل جبريل الأمين عليه السلام، إلى إبراهيم، وقال له: "ألك حاجة؟ لو أمرتنى لأطفأت النار وأهلكتهم جميعا" فرد عليه إبراهيم قائلا:"الله أعلم بحالي وهو غنى عن سؤالى" .
فإبراهيم رغم ما فيه من العذاب، إلا أنه استحيا أن يسأل أحدا غير الله عز وجل، الأمر الذي يدل على رضاه بما ابتلي به من العذاب، وصبره على مالا يطيق غيره من البشر، فكان أعزلا وحيدا، ولكن قلبه كان يطوف حول "عرش الرحمن" فصغرت الأهوال، والنيران التى تذيب الجبال أمام عينيه لأن "العناية الإلهية" حينما تحيط أهل الإيمان تجعل المستحيل ممكنا، وتحول العذاب إلى رضا، وتقلب المحنة إلى منحة، وتغير النقمة إلى نعمة).
التزم إبراهيم عليه السلام بقول "حسبنا الله ونعم الوكيل"، وهى كلمات تخترق الحجب لتصعد تحت "عرش الرحمن" فحدثت المعجزة فمكث إبراهيم فى النيران 7 أيام ،، ولما هدأت النار وجدوا "سيدنا إبراهيم" فوق ربوة خضراء يسبح "بحمد ربه"، ولم تحترق إلا القيود فقط ، وقال سيدنا إبراهيم بأن هذه الأيام أفضل أيام حياته لأنه كان فى "عناية الله".
فقال عنه الرحمن عز وجل في كتابه الكريم( إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا).
البلاء في ترك أسرته في الصحراء
ابتلاء أخر لا يقدر عليه أحد من البشر، حينما أمر الله عز وجل إبراهيم أن يذهب بأسرته (زوجته وطفله الرضيع) إلى صحراء قاسية لا شجر فيها ولا ماء، : حيث أسكن إبراهيم اسماعيل وأمه في مكة المكرمة وتركهما ورجع إلى أرض فلسطين وذلك بأمر من الله تعالى وتكليف، لتسأله زوجته هاجر: " أاله أمرك بهذا؟" فيجيبها: " نعم" فترد عليه رد المؤمنة المحتسبة، والتي رغم قسوة الظروف التي أصبحت فيها هي ورضيعها في هذا المكان المرعب، تستجيب وترضى وتتحمل حتى أنعم الله عليها بالرحمة والبركات.
اظهار أخبار متعلقة
ابتلاؤه في أبيه
كان من الفتن التي أصابت إبراهيم عليه السلام وألحقت به، أن أباه كان كافراً يعبد الأصنام، وكان إبراهيم يدعوه إلى الله تعالى، وينصحه لكنه لم يقبل هذا النصح بل توعد إبراهيم برجم.
فهذا إبراهيم عليه السلام الداعية يدعو أباه ويرغبه ويمحضه النصح، لكن الأب يأبى ويصر على ديانته بل ويتوعد إبراهيم عليه السلام، وهذه فتنة شديدة على النفس، لأن المرء يتوقع من أقرب الناس إليه، كوالديه، أن يكونوا مع دعوته، ينصرونه على من ظلمه، ويخففون عنه ما يصيبه، فإذا كان هؤلاء في صف أعدائه كانت هذه مصيبة تقع على نفسه.
ولا يقف ابتلاء إبراهيم عليه السلام بأبيه في الدنيا، بل يتعداه إلى الآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك؟ فيقول إبراهيم: يا رب انك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين، فيقال: يا إبراهيم: انظر ما بين رجليك، فينظر فإذا بذيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه، فيلقى في النار".
الابتلاء بتأخير الولد
ابتلى الله تعالى إبراهيم عليه السلام بتأخير رزقه بالولد، فقد ولد له من زوجته هاجر ابنه إسماعيل، الذي ولد له على كبر سنه، كما ولد له ابنه اسحق من زوجته سارة على كبر سنه وعقمها، فهو عليه السلام قد ابتلي بتأخير الولد عنه حتى كبر سنه، حتى أنه قد حمد ربه على هذه الهبة العظيمة التي أعطاها إياه.
محاولة الملك الاعتداء على زوجه سارة
قد كان من صور الابتلاء التي تعرض لها إبراهيم عليه السلام، أن ملك مصر قد حاول الاعتداء على زوجته سارة، لكن الله تعالى خلصها منه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، اثنتين منهما في ذات الله قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وبينما هو ذات يوم وسارة، إذ أتى على جبار من الجبابرة، فقيل له: إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن النساء، فأرسل إليه، فسأله عنها فقال: من هذه؟ فقال: أختي، فأتى سارة فقال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني، فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني، فأرسل إليها، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده، فأخذ، فقال: ادع الله لي، ولا أضرك، فدعت، فأطلق، ثم تناولها ثانية، فأخذ مثلها أو أشد، فقال: أدعي الله لي، ولا أضرك، فدعت، فأطلق، فدعا بعض حجته، فقال: إنك لم تأتني بإنسان، وإنما أتيتني بشيطان، فأخدمها هاجرة، فأتته وهو قائم يصلي، فأومأ بيده، فقالت: رد الله كيد الفاجر في نحره، واخدم هاجر".
وهذا أيضاً نوع من الابتلاء الشديد قد تعرض له إبراهيم عليه السلام ويتمثل في محاولة الملك الفاجر الاعتداء على زوجته سارة، لكن الله تعالى سلمها منه وسلم لإبراهيم عليه السلام عرضه، وهذا ابتلاء شديد خلص الله تعالى إبراهيم عليه السلام منه، ورد كيد الفاجر إلى نحره، وأبعد أذاه عن إبراهيم عليه السلام وزوجه سارة.
ابتلاؤه بأمره بذبح ابنه إسماعيل
كان من صور الابتلاء التي تعرض له إبراهيم عليه السلام أمره بذبح ابنه إسماعيل، فما كان من الأب إلا الامتثال، وما كان كذلك من الابن إلا الامتثال، فلما حصل التسليم والالتزام بالأمر من الله تعالى، وفدي إسماعيل بذبح عظيم.
هذه الابتلاءات التي تعرض لها سيدنا إبراهيم عليه السلام بكل صدر رحب، فصبر واحتسب، وتلقى قضاء الله بكل نفس طيبة، فكان أن أتاه الله تعالى ثواب الصبر في الدنيا، وعاقبته في الآخرة، فعوضه عن معاداة أبيه له وحربه له، أن جعله أمة "إن إبراهيم كان أمة"، وعوضه عن تأخر الولد حتى كبر سنه، أن آتاه ولدين، وعوضه عن بعد الولد أن جعل النبوة في ولده، وجعل أهل التوحيد تبع له، وعوضه عن الأمر بالذبح لابنه، أن جعل الأمة تستن بفعله فتذبح كل عام شاة مثل الذبح الذي فدى به إسماعيل عليه السلام.
حتى جاء ملك الموت ليقبض روحه فقال له الخليل إبراهيم : هل رأيت خليلا يميت خليله فأوحى إليه "الله تعالى"، وهل رأيت خليلا يكره لقاء خليله ؟!!فتبسم" الخليل إبراهيم "واستعد للقاء ربه بأن أمر أولاده بالبقاء ثابتين على طريق الإيمان.