جعل الله سبحانه وتعالى شأنَ الدعاءِ شأنًا عظيمًا، ونفْعَه عميمًا، ومكانتَه عاليةٌ في الدين، فما استُجْلِبت النعمُ بمثله ولا استُدْفِعت النِّقَمُ بمثله، ذلك أنه يتضمن توحيد الله، وإفراده بالعبادة دون من سواه، وهذا رأس الأمر، وأصل الدين.
ويعد شهرَ رمضانَ فرصةٌ سانحة، ومناسبة كريمة مباركة يتقرب فيها العبد إلى ربه بسائر القربات، وعلى رأسها الدعاء والمناجاة لربه؛ ذلكم أن مواطن الدعاء، ومظانَّ الإجابة تكثر في هذا الشهر؛ فلا غَرْوَ أن يُكْثِر المسلمون فيه من الدعاء.
ومناجاة الله عز وجل هي حالة لو عشناها لذقنا نعيم الجنة ونحن في الدنيا.. وهي عبادة امتاز بها الله أهله وخاصته من البشر.. يستطيبون معها الطاعات.. وتحلو لهم فيها الدموع حبًا وشوقًا لخالقهم.. فيقفون ببابه خاشعين طائعين يناجونه بكل الحب.. نعم هي عبادة المناجاة لله جل وعلا..
((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ))
اظهار أخبار متعلقة
ما معنى المناجاة؟
والمناجاة، من الكلام سرًا، وناجاه كلّمه سرًا وخفية، وقد قال الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن: أصلها أن تخلو بمن تناجيه بسرٍ معين في مكان مرتفع منفصل عما حوله.
وقيل: أصله من النجاة وهو أن يعاون المُناجَى المناجِي على ما فيه خلاصه وتلبية حاجته.
الفرق بين المناجاة والدعاء
الدعاء هو السؤال والطلب من الله ليقضي الحاجات، أما المناجاة فهي ليست طلبًا، بل مخاطبة الله تعالى، والحديث إليه بكل الخضوع، وبكل ما في قلبك، وبما يعطِّف قلبه عليك ليجيب دعاءك، ويقضي حاجتك.
لذا قال بعضهم المناجاة هى حديث العبد لربه سراً بالتضرع والخضوع والتذلل، قبل أي سؤال أو طلب..
ابن عطاء الله.. أشهر المناجين
لعل أبرز وأشهر من ناجى ربه، هو ابن عطاء الله السكندري، الفقيه المالكي والصوفي الشاذلي الطريقة، بل هو أحد أركان الطريقة الشاذلية الصوفية، وهوالملقب بـ "قطب العارفين" و"ترجمان الواصلين" و"مرشد السالكين".. كان رجلًا صالحًا عالمًا يحضر ميعاده الكثيرون، وكان لوعظه تأثير في القلوب، وله ذوق ومعرفة بكلام الصوفية وآثار السلف، وله موقع في النفس، وجلالة بين الناس، ولاتزال كتبه تدرس حتى اليوم.
اقرأ أيضا:
ليست كلها ضدك.. أسباب تحول بينك وبين استجابة الدعاء من مناجاته لخالقه
إلهي ما ألطفك بي مع عظيم جهلي.. وما أرحمك بي مع قبيح فعلي..
إلهي ما أقربك مني وما أبعدني عنك..
إلهي ما أرأفك بي فما الذي يحجبني عنك..
إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيرًا في فقري..
إلهي أنا الجاهل في علمي فكيف لا أكون جهولًا في جهلي..
إلهي مني ما يليق بلؤمي ومنك ما يليق بكرمك..
إلهي وصفت نفسك باللطف والرأفة بي قبل وجود ضعفي أفتمنعني منهما بعد وجود ضعفي..
إلهي إن ظهرت المحاسن مني فبفضلك ولك المنة علي وإن ظهرت المساوي مني فبعدلك ولك الحجة علي..
إلهي اطلبني برحمتك حتى أصل إليك واجذبني بمننك حتى أقبل عليك..
إلهي أخرجني من ذل نفسي، وطهرني من شكي وشركي.. بك أنتصر فانصرني، وعليك أتوكل فلا تكلني، وإياك أسأل فلا تخيبني، وفي فضلك أرغب فلا تحرمني، ولجنابك أنتسب فلا تبعدني، وببابك أقف فلا تطردني..
إلهي كيف تكلني إلى نفسي وقد توكلت لي، وكيف أضام وأنت الناصر لي، أم كيف أخيب وأنت الحفي بي.. ها أنا أتوسل إليك بفقري إليك، وكيف أتوسل إليك بما هو محال أن يصل إليك.. أم كيف أشكو إليك حالي وهو لا يخفي عليك.... أم كيف تخيب آمالي وهي قد وفدت إليك..
إلهي تقدس رضاك أن تكون له علة منك فكيف تكون له علة مني، أنت الغني بذاتك عن أن يصل إليك النفع منك فكيف لا تكون غنيًا عني..
إلهي إن القضاء والقدر غلبني.. وإن الهوى بوثائق الشهوة أسرني.. فكن أنت النصير لي حتى تنصرني وتنصر بي، واغنني بفضلك حتى أستغني بك عن طلبي..
إلهي أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ووحدوك، وأنت الذي أزلت الأغيار من قلوب أحبابك حتى لم يحبوا سواك ولم يلجأوا إلى غيرك، أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم، وأنت الذي هديتهم حتى استبانت لهم المعالم..
إلهي كيف يرجى سواك وأنت ما قطعت الإحسان، وكيف يطلب من غيرك وأنت ما بدلت عادة الامتنان، يا من أذاق أحبابه حلاوة مؤانسته فقاموا بين يديه متملقين، ويا من ألبس أولياءه ملابس هيبته فقاموا بعزته مستعزين، أنت الذاكر من قبل الذاكرين، وأنت البادئ بالإحسان من قبل توجه العابدين، وأنت الجواد بالعطاء من قبل طلب الطالبين، وأنت الوهاب ثم أنت لما وهبتنا من المستقرضين..
إلهي.. ماذا وجد من فقدك؟ وما الذي فقد من وجدك؟ لقد خاب من رضي دونك بدلًا.. ولقد خسر من بغي عنك متحولًا..
من لنا سوى الله نناجيه.. نقف بين يديه في خشوع.. فما ذاق وما أدرك حلاوة الإيمان من لم يمض وقتاً طويلاً في مناجاة الله سبحانه.