لن تستمر في إنفاق الأموال أو استثمارها دون تقييم مدى جودة سير الأمور كل شهر أو سنة، كذلك الوقت، يجب بين الفترة والأخرى أن تقيم قيمة وقتك وكيفية استثماره، لأنه بإمكانك تغيير الخطة وفقًا للفترة التي تمر بها والمهام اليومية التي عليك إنجازها بنفسك، فمع إهدار الكثير من عمرك ربما تقف للحظات لتحاسب نفسك على هذا العمر الضائع منك، وكيف تستثمر المتبقي من عمرك قبل فوات الأوان، خاصة إذا ما وجدت نفسك صفر اليدين.
إذا كنت في سن صغيرة ولم تتخطَ العشرينيات من العمر، من الوارد أنك لا تدرك القيمة الحقيقية وأهمية الوقت، وتعتقد أنه ما زال هناك متسع للاستفادة من الوقت في القيام بأشياء مهمة، لكن سرعان ما تجد الزمن مر سريعاً، وأنت ما زلت في محلك.
وأهم ما نستثمر به أوقاتنا هو أن ننشغل بما يفيدنا، ولا نركز مع أسرار وخصوصيات الغير، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من حُسْنِ إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».
الانشغال بما ينفع
يرشد حديث النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن حسن إسلام المرء مرهون بالانشغال بما ينفعه وما يفيده وتركه مالا يعنيه، من أمر الدين والدنيا من الأفعال أو الأقوال التي يسأل عنها يوم القيامة.
فيرشد فقه الحديث إلى سبل إقامة المجتمع الفاضل بحرص الإسلام على سلامة المجتمع، وأن يعيش الناس في وئام ووفاق، لا منازعات بينهم ولا خصومات، كما يحرص على سلامة الفرد وأن يعيش في هذه الدنيا سعيداً، يَألف ويُؤلف، يُكرم ولا يُؤذى، ويخرج منها فائزاً رابحاً، وأكثر ما يثير الشقاق بين الناس، ويفسد المجتمع، ويورد الناس المهالك تدخُّل بعضهم في شؤون بعض، وخاصة فيما لا يعنيهم من تلك الشؤون، ولذا كان من دلائل استقامة المسلم وصدق إيمانه تركه التدخل فيما لا يخصه من شؤون غيره.
كما ينبه على أن الاشتغال بما لا يعني الإنسان تضييع له، وعنوان ضعف الإيمان عنده، فالإنسان يعيش في هذه الدنيا والناس حوله كثير، والمشاغل والعلاقات كثيرة ومتعددة ومتنوعة، والمسلم مسؤول عن كل عمل يقوم به، وعن كل ساعة يقضيها، وعن كل كلمة يتكلم بها، فإذا اشتغل الإنسان بكل ما حوله، وتدخل في شؤون لا تعنيه، شغله ذلك عن أداء واجباته، والقيام بمسؤولياته فكان مؤاخذاً في الدنيا ومعاقباً في الآخرة، وكان ذلك دليل ضعف إدراكه، وعدم تمكن الخلق النبوي من نفسه، وأن إسلامه أقرب إلى أن يكون إسلام الشفة واللسان.
روى الترمذي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: تُوفي رجل من الصحابة، فقال رجل: أبشر بالجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو لا تدري، فلعله تكلم فيما لا يعنيه، أو بخل بما لا ينقصه».
وروى ابن حبان في صحيحه: أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر رضي الله عنه: «بحسب امرئ من الشر ما يجهل من نفسه، ويتكلف ما لا يعنيه».
كما ينبه الحديث على أن الإعراض عما لا يعني طريق السلامة والنجاة وإذا أدرك المسلم واجبه، وعقل مسؤوليته فإنه يشتغل بنفسه، ويحرص على ما ينفعه في دنياه وآخرته، فيعرض عن الفضول ويبتعد عن سفاسف الأمور، ويلتفت إلى ما يعنيه من الأحوال والشؤون.
اظهار أخبار متعلقة
الاشتغال بالمصالح الأخروية
وإذا علمنا أن ما يعني الإنسان في هذه الدنيا من الأمور قليل بالنسبة لما لا يعنيه، علمنا أن من اقتصر على ما يعنيه سلم من كثير من الشرور والآثام، وتفرغ للاشتغال بمصالحه الأخروية، وكان ذلك دليلاً على حسن إسلامه، ورسوخ إيمانه، وحقيقة تقواه، ومجانبته لهواه، ونجاته عند ربه جل وعلا.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها».
وذكر مالك في المؤطأ أنه بلغه: أنه قيل للقمان: ما بلغ بك ما نرى؟. يريدون الفضل، فقال لقمان: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني.
فالقلب المشغول بالله تعالى معرض عما لا يعنيه من شؤون الخَلْق، والمسلم الذي يعبد الله عز وجل كأنه يراه، ويستحضر في نفسه أنه قريب من الله تعالى والله تعالى قريب منه، يشغله ذلك عما لا يعنيه، ويكون عدم اشتغاله بما لا يعنيه دليل صدقه مع الله تعالى وحضوره معه، ومن اشتغل بما لا يعنيه دل ذلك منه على عدم استحضاره القرب من الله تعالى، وعدم صدقه معه، وحبط عمله، وكان من الهالكين.
فما يعني الإنسان من الأمور وما لا يعينه هو ما يتعلق بضرورة حياته في معاشه، من طعام وشراب وملبس ومسكن ونحوها، وما يتعلق بسلامته في معاده وآخرته، وما عدا هذا من الأمور لا يعنيه.
ومما لا يعني الإنسان الأغراض الدنيوية الزائدة عن الضرورات والحاجيات: كالتوسع في الدنيا، والتنوع في المطاعم والمشارب، وطلب المناصب والرياسات، وحب المحمدة والثناء من الناس، فمن دلائل صدق المسلم البعد عن ذلك، ولا سيما إذا كان فيها شيء من المماراة والمجاملة على حساب دينه.
والأفعال المباحة، مما لا يعود على الإنسان منه نفع في دنياه أو آخرته، كاللعب والهزل وما يخل بالمروءة، مما لا يعني، ويحسن بالمسلم تركها، لأنها مضيعة للوقت النفيس في غير ما خلق من أجله، والذي سيحاسب عليه.
فقد يجر الفضول في الكلام مما لا يعني، المسلم إلى الكلام المحرم، ولذلك كان من خُلُق المسلم عدم اللغط والثرثرة والخوض في كل قيل وقال. روى الترمذي عن معاذ رضي الله عنه قال: يا رسول الله، أنؤاخذ بكل ما نتكلم به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثكلتك أمُّك يا معاذ، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم».
وروى أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلام ابن آدم عليه لا له، إلا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وذكر الله تعالى».