قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23 - 24].
وقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14].
أمك ثم أمك ثم أمك ثم ابوك
جعل الله تعالى بر الوالدين عبادة كريمة، وسر من أسرار العلاقة مع الله عز وجل واستجابة الدعوة، وخاصة بر الأم لما لها من منزلة عظيمة كشف عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " أمك ثم أمك ثم أمك ثم ابوك".
وقد كشفت قصة " أويس القرني " عن سر العلاقة بين بر الأم واستجابة الدعوة، فأوس بن عامر القرني صاحب الدعوة المستجابة عند الله، الذي أخبر الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بارًا بوالدته، ولم راه وكان على بعد آلاف الأميال منه، جعله الله مستجاب الدعوة.
كان يخدم أمه، فقالت له: ابق معي يا بني، فترك الذهاب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليبر أمه، فسرعان ما نزل الوحي من السماء، لنشر هذه الفضيلة المخبئة في زوايا الأرض، لعظمة البر، حتى طلب رسول الله من شيخي المسلمين أن يطلبوا منه أن يستغفر لهما، لعظيم قصة أويس القرني مع أمه وبره بها وزهده في الدنيا.
اظهار أخبار متعلقة
أويس القرنيَّ
والقصة جاءت بسند عن أُسَيْرِ بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويسُ بنُ عامر؟ حتى أتى على أويس فقال: أنتَ أُوَيس بنُ عامر؟ قال: نعم، قال: مِن مُراد ثم من قرَن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأتَ منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر، مع أمداد أهل اليمن، مِن مُراد ثمَّ مِن قرن، كان به برص فبَرَأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها برٌّ، لو أقسم على الله لأبرَّه، فإن استطعت أن يستغفر لك، فافعل))، فاستغفِرْ لي، فاستغفَرَ له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكونُ في غبراء الناس أحب إليَّ، قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم، فوافق عمر فسأله عن أويس؟ قال: تركتُه رثَّ البيت، قليل المَتاع، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن، مِن مراد ثم من قرن، كان به برص فبَرَأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها برٌّ، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك، فافعل))، فأتى أويسًا فقال: استغفِرْ لي، قال: أنتَ أحدثُ عهدًا بسفر صالح، فاستغفِرْ لي، قال: استغفِرْ لي، قال: أنت أحدث عهدًا بسفر صالح، فاستغفرْ لي، قال: لقيتَ عمر؟ قال: نعم، فاستغَفَرَ له، ففَطِن له الناس، فانطلق على وجهه، قال أسير: وكسَوْتُه بُرْدةً، فكان كلما رآه إنسان قال: من أين لأويس هذه البُرْدة؟.
والحديث يؤكد أن أويسًا القرني من الأخيار الصالحين، ويُعتبر أفضل التابعين، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله يقول: ((إن خير التابعين رجل يقال له: أويس..)).
وكان أويس القرنيَّ على كرم حاله أصابه البرص، وأن ذلك مما أصابه الله به، ووفقه أن يسأل الله تعالى إبراءه منه، وأنه أبرأه منه إلا موضع درهم منه، يَذكُر به نعمته عليه؛ إذ مِن عادة الآدمي نسيان النعم إلا مَن وفَّقه الله.
كما أن هذا الحديث أصل في جواز طلب الدعاء والاستغفار ممن عُرِف بالصلاح والتقوى من الأحياء، قال العلماء: "طلب الاستغفار والدعاء من الرجل الصالح لا بأس به، لعل الله يُجيب دعوته، فإذا قلتَ له: يا أخي، ادع الله لي بالمغفرة، أو ادع الله لي أن يُصلح قلبي، أو يثبتني على الإيمان، أو أن يمنحني العلم النافع، أو أن يَرزقني زوجةً صالحة، فلا بأس في ذلك"، وها هو خير الأمَّة، وأفضل الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأبي بكر رضي الله عنه، يتتبَّع أخبار اليمن، ويسألهم عن أويس؛ لكي يطلب من الرجل الصالح أويس القرني أن يستغفر له، قال النووي رحمه الله: "وفيه استحباب طلب الدعاء والاستغفار من أهل الصلاح، وإن كان الطالب أفضل".
وببر الأم وصل أويس القرني إلى منزلة عالية، وإلى مكانة عظيمة، لدرجة أنَّ أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، يبحث عنه فترة زمنية؛ حتى يطلب منه الدعاء له بالمغفرة، ومع هذا فإن أويسًا لم يتكبَّر، ولم يُعجب بنفسه، بل ازداد تواضعًا وخشيةً من الله.