السابقون بالخير هم أفضل عباد الله .. تعلقت قلوبهم بحب الله ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العلا فًأصبحت أرواحهم وجورارحهم متجهة إلى خالقهم عز وجل ترجو رحمته وعفوه وتسعى إلى رضوانه فيجدهم حيث أمرهم ويغيبون حيث نهاهم.
إن العبد الصالح السابق بالخيرات همّه في تحصيل الحسنات، ونيل الدرجات، والبعد عن المحرمات، والقرب من رب الأرض والسماوات، والسابقون هم أعلى الخلق درجات، وأعلاهم مقامًا، ولذا كان السابقون في الدنيا إلى الإيمان والأعمال والخيرات؛ هم السابقون في الآخرة لدخول الجنات، وهم المقربون عند الله في جنات النعيم في أعلى عليين، قال الله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ) [الواقعة: 10-14].
فهؤلاء همهم ما يقربهم إلى الله، وإرادتهم مصروفة فيما ينجّي من عذاب الله، فكل خير سمعوا به، أو سنحت الفرصة إليه انتهزوه وبادروه، يسارعون إلى كل خير، ويسابقون في كل عمل صالح، وينافسون في كل ما يقربهم إلى الله، (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 61].
والأمر باستباق الخيرات أمرٌ زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها يتضمن فعلها وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الوجوه والأحوال، والمبادرة إليها في أول وقتها. والخيرات تشمل جميع الطاعات والفرائض والنوافل من صلاة وصيام، وزكاة وصدقات، وحج وعمرة، وجهاد، ونفع خاص وعام.
إن السابقين بالخيرات من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، هو الذي يأتي بالفرائض والنوافل والمستحبات، ويترك الكبائر والمحرمات والمكروهات؛ فسيره حثيث دائماً، والسابق بالخيرات: رجل شق الغبار، وأصبح كالنجم المغوار، وكالسيل المدرار، فهو في المرتبة الأولى، إن كان في المصلين فهو في الصف الأول، أو الصائمين فهو أولهم، أو الذاكرين فلسانه لا يفتر، وفي المتصدقين يده مهملة في الصدقة.
لا تعرضن ذكرنا في ذكرهم *** ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
كما أن السابقين المقربين قوم امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغُمرَت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته. فإذا استيقظ أحدهم فأول ما يبدأ به: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور"، ثم يقول بعدها: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله". ثم يدعو ويتضرع. ثم يقوم إلى الوضوء بقلب حاضر مستصحب لما فيه.
قائمون بالليل ومستغفرون بالأسحار
ثم يصلي ما كتب الله له صلاة محب ناصح لربه، متذلل منكسر بين يديه، لا صلاة مدل بها عليه، يرى من أعظم نعم الله عليه أن أقامه وأنام غيره، واستزاره وطرد غيره، وأهلَّه وحرم غيره، يرى أن قرة عينه وحياة قلبه وجنة روحه ونعمته ولذته وسروره في تلك الصلاة، فهو يتمنى طول ليله، ويناجيه بكلامه معطيًا لكل آية حظها من العبودية؛ فتجذب قَلْبَه وروحه إليه آياتُ المحبة والوداد، والآيات التي فيها الأسماء والصفات، والآيات التي تعرف بها إلى عباده بآلائه وإنعامه عليهم وإحسانه إليهم. وتُطَيِّبُ له السِّير آيات الرجاء والرحمة وسعة البر والمغفرة. وتقلقه آيات الخوف والعدل والانتقام، وإحلال غضبه بالمعرضين عنه العادلين به غيره المائلين إلى سواه.، بحسب موقع "الخطباء".
فإذا صلى ما كتب له جلس مطرقًا بين يدي ربه هيبة له وإجلالاً، واستغفره استغفار من يتيقن أنه هالك إن لم يغفر له ويرحمه. فإذا قضى من الاستغفار وطرًا وكان عليه بعد ليل اضطجع على شقه الأيمن مريحًا نفسه، مقويًا لها على أداء وظيفة الفرض، فإذا طلع الفجر صلى السنة وابتهل إلى الله بينها وبين الفريضة، ويكثر من قول: "يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت".
ثم ينهض إلى صلاة الصبح قاصدًا الصف الأول عن يمين الإمام أو خلف قفاه، فإن فاته ذلك قصد القرب منه مهما أمكن؛ فإن صلاة الفجر يشهدها الله -عز وجل- وملائكته شهادة خاصة، وهي شهادة حضور ودنو متصل بدنو الرب ونزوله إلى سماء الدنيا في الشطر الأخير من الليل.
فإذا فرغ من صلاة الصبح أقبل بكليته على ذكر الله والتوجه إليه بالأذكار التي شرعت أول النهار فيجعلها وردًا له لا يخل بها أبدًا، ثم يزيد عليها ما شاء الله من الأذكار الفاضلة وتلاوة القرآن حتى تطلع الشمس.
فإذا طلعت فإن شاء ركع ركعتي الضحى وزاد ما شاء الله وإن شاء قام من غير ركوع. ثم يذهب مضطرًا إلى ربه سائلاً له أن يكون ضامنًا عليه متصرفًا في مرضاته بقية يومه، فلا ينقلب إلا في شيء يظهر له فيه مرضاة ربه، وإن كان من الأفعال العادية الطبيعية قلبه عبادة بالنية وقصد الاستعانة به على مرضاة الرب. فإذا جاء فرض الظهر بادر إليه مكملاً له ناصحًا فيه لمعبوده، باذلاً مقدروه كله في تحسينه وتزيينه وإصلاحه وإكماله ليقع موقعًا حسنًا من محبوبه، فينال به رضاه وقربه منه. وهكذا صلاة العصر والمغرب، والعشاء.
فهذا سلوك أهل النباهة والحزم، وهم أفراد من العالم، وهو طريق سهل قريب موصل طريق آمن، أكثر السالكين في غفلة عنه.
مع هذا كله قائمون بحقوق العباد: من عيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وإجابة الدعوة، والمعاونة لهم بالجاه والبدن والنفس والمال، وزيارتهم، وتفقدهم، وقائمون بحقوق أهلهم وعيالهم. فإذا وقع من أحدهم تفريط في حق من حقوق الله بادر إلى الاعتذار والتوبة والاستغفار ومحوه ومداواته بعمل صالح يزيل أثره. هؤلاء هم الأبرار.
والسابقون المقربون، السابقون بالخيرات، هم أفضل الخلق وأزكاهم، ونبأهم عجيب، ونحن نستغفر الله من وصف حالهم، وعدم الاتصاف به، ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها، عسى أن تشمر النفس للاقتداء بهم، والاتصاف بصفاتهم.
فالسابقون المقربون جملة أمرهم: أنهم قوم امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت قلوبهم محبة الله وخشيته، ومراقبته وإجلاله. فَسَرَت المحبة في قلوبهم وأبدانهم، فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب، وقد أنساهم حبه ذكر غيره، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه.
قد استغنوا بحبه عن حب ما سواه، وبذكره عن ذكر ما سواه، وبخوفه ورجائه عن خوف ورجاء من سواه. وصارت رغبتهم إليه, وتوكلهم عليه, ورهبتهم منه, وإنابتهم إليه, وسكونهم إليه, وانكسارهم بين يديه, فلم يتعلقوا بشيء من ذلك بغيره.
فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه، واجتمع همه عليه، متذكراً صفاته العلا، وأسمائه الحسنى، مشاهداً له في أسمائه وصفاته، قد امتلأ قلبه بمعرفته ومحبته.
فبات جسمه على فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد آوى إلى مولاه وحبيبه فآواه، وأسجده بين يديه خاضعاً خاشعاً، ذليلاً منكسراً من كل جهاته، فيا لها من سجدة ما أشرفها من سجدة
.
شتان بين قلب يبيت عند ربه قد قطع في سفره إليه بيداء الأكوان، ولم يقف عند رسم، ولا سكن إلى علم، حتى دخل على ربه، فشاهد عز سلطانه، وعظمة جلاله، وعلو شأنه، وبهاء كماله، وهو مستو على عرشه، يدبر أمر عباده، وتصعد إليه شؤون العباد، وتُعرض عليه حوائجهم وأعمالهم، فيأمر فيها بما يشاء، فينزل الأمر من عنده نافذاً كما أمر.
فيشاهد الملك الحق قيوماً بنفسه، مقيماً لكل ما سواه، غنياً عن كل ما سواه، وكل من سواه فقير إليه (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن: 29]، ويرى ربه يغفر الذنوب، ويفرج الكروب، ويرحم المسترحمين، ويفك عانياً، وينصر ضعيفاً، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويُميت ويُّحيي، ويُسعد ويُشقي، ويضل ويهدي، وينعم على قوم، ويسلب نعمته عن آخرين، ويعز أقواماً، ويذل آخرين.
ويشاهد الملك الرزاق يقسم الأرزاق ويجزل العطايا، ويمن بفضله على من يشاء من عباده، بيده اليمنى، وبيده الأخرى الميزان، يخفض به من يشاء، ويرفع به من يشاء، عدلاً منه وحكمة. ويشهده وحده القيوم بأمر السموات والأرض ومن فيهن، ليس له بواب فيستأذن، ولا حاجب ولا وزير ولا ظهير فيستعان به، ولا ولي من دونه فيشفع به إليه، ولا نائب عنه فيعرِّفه حوائج عباده، ولا معين له فيعاونه على قضائها.
أحاط -سبحانه- بالعباد وحوائجهم، ووسعها قدرة ورحمة وعلماً، فلا تزيده كثرة الحاجات إلا جوداً وكرماً، ولا يشغله منها شأن عن شأن.
فهو -سبحانه- الملك الغني الكريم، عليم بكل شيء، محيط بكل شيء، قدير على كل شيء، يفعل ما يشاء؛ لأراد لقضائه، ولا معقب لحكمه: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82]، فالله -عز وجل- ذو الكرم الفياض يمنّ على عباده بنعمه، وله الحمد والمنة على كل نعمة.
فيا من كلَّما زاد عمره زاد إثمه، ويا من كلما كثرت أوزاره قل استغفاره، ويا من لا يروعه ما يراه ويسمعه متى تفيق؟ ومتى تقف بباب مولاك العزيز الغفور الرحيم؟!.
ولا يعني ذلك أن السابقين بالخيرات يُعْجَبُون بأعمالهم أو تغرهم طاعتهم، بل هم مع اجتهادهم في الطاعة خائفون من عدم قبول طاعتهم، قال الله تعالى في وصفهم: (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 59-61]، فهم الذين يعطون من أنفسهم مما أمروا به من كل ما يقدرون عليه من صلاة وزكاة، وصيام وحج، وطاعات وأعمال صالحة؛ ومع هذا قلوبهم وجلة وخائفة عند عرض أعمالها على ربها، والوقوف بين يديه، خشية أن تكون أعمالهم غير منجية من عذاب الله، لكمال علمهم بربهم، وما يستحقه من أنواع العبادات.
فقد وصفهم الله -سبحانه- بكمال الإيمان به وبآياته، وبالإخلاص الكامل وترك الشرك من جميع جهاته، وبالوجل والخشية من علام الغيوب، به يؤدون الحقوق ويدعون الذنوب، أولئك الذين سارعوا إلى كل خير فسبقوا، وأولئك الذين نافسوا في كل فضيلة فأدركوا. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين سئل عنهم: "هم الذين يصلون، ويصومون، ويتصدقون، ويحجون، ويعتقون، ويخافون أن لا يتقبل منهم"، فقد جمعوا بين القيام بأحسن الأعمال وبين الوجل والخشية من ذي الجلال، أولئك الذين آمنوا بربهم، وعرفوا ما له من الحقوق والواجبات، فاجتهدوا في أدائها وتحقيقها، وحذروا من التقصير والهفوات، وقاموا بشروط التوبة من الندم على ما مضى، والإقلاع عن المحارم، وعزموا عزما جازما على ترك المآثم والمظالم، وسارعوا إلى ربهم بين الخوف من عقابه وعدله، وبين الرجاء والطمع في ثوابه وفضله.
فالخوف يردعهم عن المعاصي والتقصير، والرجاء يحثهم على الطاعة ويطيب لهم المسير، والله مرادهم ومقصودهم، وهو نعم المولى ونعم النصير، والرسول إمامهم وقائدهم، وهو البشير النذير، والسراج المنير، فهؤلاء هم السادة الأبرار، وأولئك هم المتقون الأخيار.
اقرأ أيضا:
كيف يكشف الشح عوراتك أمام الأخرين؟اقرأ أيضا:
الأمانة دليل إيمانك.. هذه بعض صورها