عًمر صانع حضارة - الحلقة 5 - الإخلاص للفكرة
بسم الله الرحمن الرحيم، أهلًا بكم في حلقة جديدة من " عُمر صانع حضارة " وكما نذكر كل يوم كلمة عن رمضان نذكر اليوم الإخلاص، فرمضان هو أفضل ما يعبر عن الإخلاص لأنه تدريب عليه، فلا أحد يمكنه أن يشرب ولو نقطة مياه بدون أن يراه أحد، والإخلاص هو نسيان رؤية الخلق فلا ترى إلا الخالق وأن تكون لله وحده.
الإخلاص هو التجرد من كل علائق الدنيا ورغباتك الشخصية.. فهو سر عجيب وعبادة جميلة وهو أكثر ما يقربك من الله في رمضان...وسط كل من يقفون في طريق الله في رمضان لو أردت أن تكون الأول فكن من المخلصين فهم الأوائل.
عُمر نموذج رائع للإخلاص
عُمر بن الخطاب نموذج رائع للإخلاص، وهناك من خلقهم الله ليكونوا الشخصية رقم اثنين وهناك من خلقهم الله لا يجيدون إلا شخصية الرجل الأول ..عُمر بن الخطاب رجل أول وهو يعلم هذا عن نفسه خاصة عندما أصبح خليفة قال عن نفسه : " والله لو أعلم فيكم من هو أقدر عليها مني لتركتها " ولكن من الرائع وأنت تعلمها عن نفسك أن تعود خطوة للخلف بإخلاص عجيب وتقبل بأن تكون رقم اثنين من أجل الفكرة.
في يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قام عُمر بن الخطاب بموقف مُخلص للغاية عندما رأى التردد والخلاف بين الأنصار والمهاجرين على من يتولى الخلافة ورغم عظمة عُمر وثقله ولكن قيمة أبوبكر معروفة للغاية، وعثمر يعلم أنه في أوقات الخلاف أول من يقول شيء يقلده الجميع، فعاد خطوة للخلف ورفع يد أبوبكر الصديق وقال: " امدد يدك أبايعك يا أبا بكر" فبايع الجميع، ثم بدأ يقول كلمات حقيقية: " ليتني شعرة في صدر أبوبكر"، كافئ الله تعالى عُمر بن الخطاب المخلص بأن جعله يحكم لعشرة سنوات.
هل أنت مُخلص؟ وفي اليوم الذي كان يوم فيه ذكر نفسك تراجعت؟ الإخلاص في المواقف الصعبة لا يبدأ مرة واحدة، ولكي تصنع حضارة وتكون من صناعها لابد من أن تكون مخلص، عُمر بن الخطاب شديد الإخلاص ويسير معه خطوة بخطوة فهو يشارك النبي صلى الله عليه وسلم في كل المعارك ولم يتخلف عن كل هذه الغزوات التي نراها، فلا ينتابه الكسل وهو يحيا لفكرته والرائع أن تنفيذه للإخلاص بشكل عملي وظهر ذلك في كل حركته في غزوة بدر وفي غزورة أُحد..هل أنت مخلص لله؟ مخلص للإسلام؟ مخلص لبلدك؟ هل أنت مخلص أن تشارك في حضرة حتى لو لم يكتب فيها اسمك؟
قمة الإخلاص عندما يحدث تعارض بين مصالحك الشخصية واحتياجاتك، حتى بين الأمور الجميلة في حياتك وبين فكرتك وما هو مطلوب منك إصلاحه، فتختار الخير والصح حتى لو على حساب أشياء أخرى.. هذا هو قمة الإخلاص.
نحن الآن في غزوة بدر ونقوم بالتصوير بالقرب من بدر جدًا، المشركين عددهم ألف والمسلمين ثلثمائة، المشركين معهم عدد كبير من الخيول والمسلمين ليس معهم سوى إثنين..المعركة غير متوازنة وهناك مشكلة كبيرة ستؤثر على المسلمين بالسلب أن الإسلام أوصاهم بصلة الرحم بشدة وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم...وقريش عائلتهم رغم كونهم كفار! فعلي بن أبي طالب يحارب أخيه عقيل بن أبي طالب لأنه لم يكن مسلم! ومُصعب بن عمير يحارب أخيه، وعُمر بن الخطاب يحارب خاله العاص بن هشام وهو أخ لأبو جهل كما يحارب خاله الآخر أبي جهل، وأبو حذيفة يحارب أبيه.
فكان الضيق يملأ نفوس المسلمين قبل المعركة بسبب هذه المشكلة، أما عُمر بن الخطاب قام بموقف مُخلص نراه نحن بشكل عكسي ومبالغ فيه، ولكنه أراد به إفاقة الجيش المسلم بأكمله بأن يعرفهم أن هذه الحرب بسبب معاداتهم للإسلام وللرسول وهذا ليس مكان صلة رحم بل للإنتصار للفكرة، فيقف بمنتهى القوة يبحث عن خاله فور بدأ معركة بدر لكي يحاربه ويرسل بهذا رسالة للمسلمين ليربط من جأشهم.
يبدأ في البحث عن خاله أبو جهل فلا يجده، فيبحث عن خاله الآخر العاص بن هشام ويبدأ في محاربته ويقتله، ثم يقف ويقول للمسلمين: " أيها المسلمون ...قتلت خالي العاص بن هشام" ..وعُمر رقيق جدًا لكن الموقف لا يحتمل وإلا ستحدث هزيمة للإسلام، ثم يجد أب سيدنا أبو حذيفة مقتول على يد أحد المسلمين ويرى أبو حذيفة حزين، فيقول له: " يا أبو حذيفة أرى في قلبك شيء مني أتظن أنني قتلت أباك؟ لا والله ما قتلته إنما قتلت خالي العاص بن هشام" ثم يسكت ويقول له:" وماذا لو كنت قتلته ! إنما أكون قتلت رجل من الكفار إنما أكون قد انتصرت للحق"، فيقول له أبو حذيفة: " نعم يا عُمر والله لو كنت قتلته فأنت على الحق وهو على الباطل ولكني كنت أتمنى لو كان أسلم أبي".
قام عُمر بن الخطاب بتغيير فكرة الجيش فحارب المسلمون بقوة وانتصروا في بدر، وأنا أعتقد أن شجاعة عُمر وإخلاصه من أسباب الإنتصار في بدر بعد نزول الملائكة وخطة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بدأ بخاله لكي يعرف المسلمين أنهم سيهزمون إذا لم يقاتلوا فالمشركين ليس لديهم فكرة صلة الرحم فكان إخلاصه من النوع القوي جدًا حتى على حساب عائلته وخاله، ولا تظنوا أنه لم يتأثر بل قال: " والله كنت أتمنى لو كان قد أسلم" فعاطفته عالية لكن الإخلاص هو مفتاح النجاح ولهذا عُمر أصبح عُمر. فلكي تعرف مدى إخلاصك لفكرتك انظر لمدى استعدادك على التضحية من أجلها ولمدى غيرتك وبذلك من أجلها.
واليوم هو أُحد يوم عظيم في تاريخ المسلمين وأرض المعركة على بعد بصف كيومتر من هنا، وقد بدأها المسلمون بإنتصار لكن حين انكسروا عندما لم يطيع الرماة أمر النبي صلى الله عليه وسلم ونزلوا من مكانهم فكانت النتيجة أن أحاطت قريش وخالد بن الوليد بالمسلمين فبدأوا في التفرق وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أنصفنا أصحابنا" ثم بدأ يتجه إلى جبل أُحد ومعه الصحابة لضرورة لفصل بين القوات لأن المعركة أصبحت في غير صالح المسلمين، فالمكان الذي أقف فيه الآن كان يقف عليه الصحابة وقريش بأسفل ولكنهم لم يتمكنوا من الصعود لأن المكان محاصر تمامًا مثل حضن، فعُمر بن الخطاب وأبو بكر وسعد بن أبي وقاص وطلحة كاهم كانوا هنا يحيطون بالنبي صلى الله عليه وسلم.
النبي صلى الله عليه وسلم كان عمره خمسة وخمسون عامًا وقتها ومجهود شاق أن يصعد، فقد صعدنا إلى هنا بصعوبة ونحن نخشى من السقوط! كانت قريش ترمي عليهم النبال فيأتي سيدنا أبو دجانة " سماك بن خرشة "ويحتضن النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: " اخفض رأسك يا رسول الله، لا يصيبك سهم " وتبدأ السهام تتساقط على ظهر أبو دجانة! أرأيتم كم هو مستعد للتضحية من أجل فكرته؟ فهل أنت مستعد للتضحية من أجل الإسلام؟ هل رأيت كم ضحى هؤلاء من أجل الإسلام؟ فكم ضحيت أنت؟ هذا المكان يشهد عليك يوم القيامة.
يبدأ سيدنا سعد بن أبي وقاص في الرد على سهامهم بسهامه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له:" ارم سعد فداك أبي وأمي"، وينادي أبو سفيان: " أفيكم محمد؟"، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تجيبوه"، فيقول: " أفيكم أبو بكر؟"، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تجيبوه"، فيقول: " أفيكم عُمر بن الخطاب؟"، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تجيبوه"، فينادي أبو سفيان ظنًا أنهم ماتوا كما أشاع بن قمئة ويقول لجيشه:" أعلوا هُبَل"، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أفلا تجيبوه؟" - كأنه ليس مهم الأشخاص بل المهم الفكرة – قالوا:" بما نجيبه يا رسول الله؟"، قال: " قولوا: الله أعلى وأجل"، فنطق حوالي 700 صحابي: " الله أعلى وأجل"، فقال أبو سفيان: " لنا العُزة ولا عُزة لكم"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أفلا تجيبوه؟"، قالوا: " بماذا نجيبه يا رسول الله؟"، قال: "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم" – يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يثبتهم على الفكرة – فرد كل الجبل: " الله مولانا ولا مولى لكم"، فقال أبو سفيان: " يومٌ كيوم بدر"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أجيبوه"، قالوا: " بما نجيب يا رسول الله؟"، قال: " قولوا: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار"، فقالوا: " قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار"، فتأكد أبو سفيان أن هذا الكلام معناه أن الثلاثة أحياء.
فيعود أبو سفيان ويسأل: " أفيكم مُحمد؟ أفيكم ابن أبي قُحافة؟ أفيكم عُمر بن الخطاب؟"، هنا لم يستطع عُمر بن الخطاب أن يصمت لغيرته على فكرته، فلم يخف من سهم غائر يصيبه ولا من شماتة أبو سفيان، فوقف بأعلى صوت يقول:" والله كلهم أحياء..والله كلهم أحياء..والله كلهم أحياء..وسينصرنا الله عليكم "، فسمع أبو سفيان كلمة عُمر بن الخطاب فقال: " لأنت أصدق عندي يا عُمر من ابن قمئة"، فمن فرط إخلاصه صدقه أبو سفيان ولم يصدق الجندي الذي معه! فأثبت عُمر من هذا المكان كم هو مخلص ويحيا من أجل رسالته.
أقولها بمنتهى الوضوح إذا كانت عاطفتكم وغيرتكم تجاه الإسلام أقل من عاطفتكم وغيركم تجاه آبائكم أو أبنائكم لو مرضى ويموتون بين أيديكم فلن نصل لشيء ولن نبني حضارة الإسلام، فاخلص للفكرة وتذكر هذا المكان العظيم الذي نصور فيه الآن.
في هذا اليوم العجيب تظهر قمة إخلاص عُمر بن الخطاب، نجد شخص يسمى عُمير بن وهب يجلس مع أحد قادة قريش يسمى صفوان بن أمية يتحدثون بعد الهزائم المتتالية التي حدثت لهم في بدر، فقال عُمير بن وهب: " لولا ديوني وأبنائي لكنت ذهبت لقتل مُحمد في المدينة"، فيرد عليه صفوان: " لكن ما هو عذرك؟" ، فقال عُمير: " عذري أن ابني أسير عندهم"، فشجعه صفوان قائلًا: " فلتذهب وأبنائك هم أبنائي ودينك سوف أقوم بسداده"، واتفقوا أن يتكتموا على هذا السر بينهم، فشحذ عُمير سيفه وخرج للمدينة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما وصل وجد صديقه القديم عُمر بن الخطاب، وبفراسة عُمر قال: " هذا عدو الله ما جاء إلا لشر"، فنزل عُمير من على ناقته وأراد أن يدخل للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمسك به عُمر وربط السيف في رقبته وأمسك به ودخل به للنبي صلى الله عليه وسلم، قائلًا: " يا رسول الله هذا ما جاء إلا لشر"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " دعه يا عُمر، ما الذي جاء بك يا عُمير؟" ، فقال: " جئت من أجل ابني لتحسنوا إليه"، فابتسم له النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " أهذا ما جئت له يا عُمير؟"، قال: " نعم، ما جئت إلا لهذا"، قال: "اصدقني القول يا عُمير"، فقال:" هذا هو الحق "، قال:" يا عُمير اصدقني القول، بل جلست أنت وصفوان بن أمية في حجر الكعبة وحدكما وقلت له كذا وكذا فرد عليك بكذا وكذا وجئت لتقتلني ولهذا وضعت السيف في عنقك"، فوقف عُمير بن وهب وقال: " كنت أكذبك يا مُحمد أنه يأتيك الوحي من السماء، لكن والله ما كان يجلس إلا أنا وصفوان ما سمعنا أحد، أشهد أنك رسول الله"
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " خذوا أخاكم فعلموه وفقهوه وخلوا إليه أسيره"، فابتسم عُمر بن الخطاب واحتضنه وقال: " لخنزيرٌ كان أحب إلي من عُمير بن وهب، أما الآن فعُمير أحب إلي من بعض ولدي، يا عُمير هذا مالي..دينك ديني..والله لأدفعها عنك وآت بأولادك على ناقتي هذه ويا عُمير ما تحتاجه فأنا أخوك".
فكيف ينقل بالحب والكره بهذه السرعة! ما الذي بقلب عُمر؟ ما هذا الإخلاص الذي يغير به القلب في ثانية! والجميل أنه ظل هكذا حتى مات رضي الله عنه، فقبل موته رآه الناس يمسك برداؤه ويجري في أنحاء المدينة، فسأله علي بن أبي طالب: " إلى أين يا أمير المؤمنين؟"، فقال له: " إبل من إبل الصدقة تركت مكانها وهي مال المسلمين"، فقال علي بن أبي طالب: " أتعبت من بعدك يا عُمر"، فيقول له عُمر: " والله لو عنزة صغيرة غرقت في شاطئ العراق لسألني الله تعالى عنها يوم القيامة إنها أموال المسلمين".
اخلصوا لأفكاركم لكي تنجحوا وتكونوا عُمرين وفيكم صفة عُمر لتصنعوا الحضارة، يقول الحسن البصري: " لكأني أنظر يوم القيامة وقد جيء الناس يقفون وجيء بالإسلام فيمر على الناس فيقول: يا رب هذا نصرني، يا رب هذا خذلني، يا رب هذه نصرتني، يا رب هذه خذلتني، حتى يصل إلى عُمر بن الخطاب فيأخذ بيد عُمر فيقول: يا رب كنت غريبًا حتى أسلم هذا الرجل"، يا ترى هل الإسلام سيمسك بيدك؟ المسألة تحتاج لإخلاص شديد لكي يمسك الإسلام بيد أحد ويقول أنه نصره.
هل أنت مُخلص في الصيام؟ بالتأكيد.. فلما لا تُخلص لإقامة حضارة أمتك؟ هل تُحب النبي صلى الله عليه وسلم؟ إن حقيقة رسالته هي قيام حضارة للمسلمين.. مِعمار وصحة وتعليم واقتصاد وأخلاق وحياة سعيدة وإيمان.. حبيبك النبي أقام حضارة للإسلام.. إذا كنت تحبه أقم حضارة للإسلام وأخلص كما تُخلص في صيامك من أجل إقامة الحضارة.
هذه كانت صفة أساسية لصانع الحضارة، أن يكون مخلص لفكرته، غدًا ان شاء الله سنأخذكم لمكان لم تروه من قبل.. سترون عُمر في صُلح الحديبية وسنذهب للمكان الذي تم فيه الصلح لنرى ماذا سيفعل عُمر وكيف سيعلمه النبي صلى الله عليه وسلم.
برامج اخري
برنامح أسرار أدعية القرآن - الجزء الثاني
برنامج أسبوعي يقدمه د. عمرو خالد يتناول فيه أدعية القرآن الكريم لما لها من أسرار كثيرة لا يعلمها الكثيرون وهي جديرة بالتأمل والتفكر فلكل دعاء من أدعية القرآن أسرار وحكم.
بودكاست معاني - دكتور عمرو خالد
بودكاست معاني - دكتور عمرو خالد