من يقرأ في سير الصحابة رضوان الله عنهم جميعًا، يجد العجب العجاب، فهناك شد الإيثار، وهناك من يخطئ ثم يتراجع عن خطئه، وإنما كان ذلك إلا لأنهم كانوا بشرًا يصيبون ويخطأون.
ومن هؤلاء عبد الله ابن أبي السرح، وهو الأخ غير الشقيق للصحابي الجليل سيدنا عثمان ابن عفان، وكان قد أسلم قبل صلح الحديبية، وحسن إسلامه للدرجة التي جعلت النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم يثق فيه ويجعله أحد "كتاب الوحي".
لكنه خان ثقة النبي هذه فيه، وكان يحرف في كتابة القرآن الكريم، فكانت تنزل الآية إن الله سميع عليم فيكتبها "حكيمًا عليمًا"، فأقنع نفسه بأن النبي لم يلحظ ذلك، وارتد عن الإسلام، وعاد إلى مكة وأعلن رجوعه إلى ديانة العرب، وروى لأهلها ما حدث بينه وبين النبي.
وفي السنة الثامنة للهجرة لما فتح الله عز وجل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم، اختبأ عبدالله، ثم ذهب إلى أخيه غير الشقيق عثمان ابن عفان يسأله الحماية، وقال له إنه عاد وتاب وأناب، وإنه يريد أن يعلم النبي ذلك، خصوصًا أنه كان قد أعلن عن أسماء 11 شخصًا هو أحدهم سيقتص منهم على أستار الكعبة.
فقال له عثمان، بل تذهب معي إلى النبي وتطلب منه العفو، وإن شاء الله سيعفو عنك، وبالعفل أخذه وذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلن توبته ورجوعه إلى الإسلام، لكن النبي أعرض عنه، ورفض أن يقابله أو أن ينظر في وجهه.
لكن عثمان كان يعيد الكلام على النبي، وكان إعراض النبي عنه، حتى يتقدم أحد الصحابة ويقتله، إلا أن أحدًا لم يفعل، بينما كان عثمان يقبل رأس النبي ويقول له يا رسول الله: بايعه فداك أبي وأمي، حتى قال له النبي: نعم.
وبعد رحيل عثمان وعبدالله ابن أبي السرح نظر النبي إلى الصحابة، وقال لهم كنت أعرض حتى يقوم أحدكم فيقتله، فقالوا له يا رسول الله لم نفهم ذلك، كنت قد أشرت علينا بإحدى عينيك، فقال لهم: ما كان لنبي أن تكون له خائنة أعين.
ويروى أن عبدالله حسن إسلامه مجددًا، وشارك عمرو ابن العاص في فتح مصر، وكذلك تولى ولايتها في عهد الخليفة عمر ابن الخطاب، وكتب الله على يديه فتح إفريقيا وقبرص.
وقاد معركة ذات الصواري التي انتصر فيها المسلمون على الروم، وكانت أول معركة بحرية في التاريخ الإسلامي، ولما حدثت فتنة عثمان وقتل، اعتزل الفتنة وانتقل إلى فلسطين حتى لقي ربه.
اقرأ أيضا:
النبي يطالب بإسقاط الديون عن أصحابه ويصلح بينهم.. حكايات عجيبةعفا الرسول عن قريش.. لكن لماذا أهدر دم هؤلاء؟
عندما دخل رسول الله صلي الله عليه وسلم مكة فاتحًا، وأظهر من العفو والتسامح ما هو مشهور، وظنت قريش أنه سيبطش بها بعد الحروب التي خاضوها ضده، لكنه غمرهم بعفو وإحسانه، وقال لهم: " اذهبوا فأنتم الطلقاء".
وعلى الرغم من عفوه عن معظم رجال قريش، إلا أنه أهدر مجموعة من الأشخاص "رجالا ونساءً"، كانوا من أكابر المجرمين، الذين نالوا من شخصه، وبيته وصحابته، وكانوا حربًا على المسلمين والاستهزاء بهم، وكانوا تسعة نفر، طالهم قرار الرسول صلى الله عليه وسلم، أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وهم:
عبد العزى بن خطل، وعبد الله بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن نفيل بن وهب ومقيس بن صبابة، وهبّار بن الأسود"، وجاريتان كانتا لابن خطل، كانتا تغنيان بذم النبيّ صلى الله عليه وسلم، والاستهزاء به، بالإضافة إلى "سارة" مولاة لبعض بني عبد المطلب، وهي التي وجد معها كتاب حاطب بن أبي بلتعة، والتي حملت فيه خطة النبي صلى الله عليه وسلم لقريش، لكن فشلت، حيث أوحي إلى النبي بفعلتها، وتم تجريدها من الكتاب.
أما ابن أبي سرح، فجاء به عثمان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وشفع فيه فحقن دمه، وقبل إسلامه بعد أن أمسك عنه، رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابة فيقتله، وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر، ثم ارتد ورجع إلى مكة.
وفر عكرمة بن أبي جهل إلى اليمن، فاستأمنت له امرأته، فأمنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتبعته فرجع معها وأسلم، وحسن إسلامه.
أما ابن خطل فكان متعلقًا بأستار الكعبة، فجاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأخبره فقال: أقتله؟.. فقتله.
وأما مقيس بن صبابة، فقتله نميلة بن عبد الله، وكان مقيس قد أسلم قبل ذلك، ثم اعتدى على رجل من الأنصار فقتله، وارتد ولحق بالمشركين.
وكان الحارث بن نفيل بن وهب شديد الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فقتله علي بن أبي طالب.
وأما هبّار بن الأسود، فهو الذي كان قد تعرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجرت، حيث هيّج بها بعيرها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها، ففر يوم مكة، ثم أسلم وحسن إسلامه.
أما الجاريتان فقتلت إحداهما، واستؤمن للأخرى، فأسلمت، كما استؤمن لسارة مولاة – صاحبة الكتاب- وأسلمت.
وأهدرت دماء آخرون منهم كعب بن زهير، الشاعر المشهور، وقصته مشهورة وقد جاء بعد ذلك واستأمن وأنشد قصيدة مشهورة في حق الرسول الكريم.
وكان هناك أشخاص لم يهدر دمهم، لكن خافوا من القتل ففروا وتركوا مكة، منهم: صفوان بن أمية بن خلف، حيث كان زعيمًا كبيرًا من زعماء قريش خاف على نفسه وفر، فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنّه، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة.
وقد لحقه عمير وهو يريد أن يركب البحر من جدة إلى اليمن فردّه، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلني بالخيار شهرين.
ومن هؤلاء أيضًا فضالة بن عمير، وكان رجلاً جريئًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الطواف، ليقتله فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بما في نفسه، فأسلم.
وبعد فتح مكة، وما حدث فيه من أحداث، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيبًا، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجدّه بما هو أهله، ثم قال: "أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات الأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا، أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما حلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب".