لم تكن حياته تقليدية، ولم يشأ أن يسلم بسهولة للوساوس والأوهام التي أحاطت بمعظم مرضى كورونا.
فبعد أن تيقن أن «العزل المنزلي» مصيره ولا مفر منه أخذ نفَسًا عميقًا واستعد لمهمة جديدة... وشاقة في الوقت نفسه.
دخل الشاب الثلاثيني لعزلته وهو يعلم أنها بداية طريق لا يعلم بالضبط أي طريق لكنه حتمًا طريق غير مألوف على الأقل بالنسبة له.
قرر أن يطرح الأفكار السلبية التي تنذره بقرب النهاية والاستسلام للأمر، وبدأ يفكر بشكل مختلف..
عزلة محببة:
خمسة عشر يومًا قضاها بين جدران غرفته الصغيرة التي لم يدخلها يومًا إلا للنوم وربما لا يدخلها ويفضل النوم في الصالون حيث الهواء الطلق.
نظرات زوجته وأولاده تواسيه وتلقي عليه ربما النظرة الأخيرة.. لم يعبأ بهذا كله.. وفكر بطريقة مغايرة..
عدة أسئلة سألها لنفسه حتى لا تتحول غرفته لمقبرة وغطاؤه لكفن.. لماذا لا تكون قوتي ذاتية.. لمَ أستسلم وما زال لدي متسع؟.. أقدار الله ستدركني حقًا، ولكن واجبي السعي للأفضل لأظل حيًا..
أضواء الغرفة التي كانت تضاء وتنطفئ كل يوم تشعر الزوجة والأولاد أنه لا يزال حيًا، بل ربما لا يزال هناك أمل..
تفكير إيجابي:
وضع الشاب لنفسه جدولًا منتظمًا لتجديد علاقته برب الأسباب ومسير الأكوان فهو وحده من بيده ملكوت كل شيء وهو من يقول للشيء كن فيكون.
نعم أخذ علاجه معه وانتظم في تناوله.. لكنه في الوقت نفسه كان يتناول جرعة إيمانية مكثفة حيث وزع يومه بين القرآن والأذكار والأدعية والصلاة والسنن، أيضًا الصدقات لم يحرم نفسه منها فكان يوميًا يوصي زوجته من وراء الباب أن تتصدق عنه بنية رفع البلاء ويصر أن تفعل..
خطبًا كثيرة تبعث الأمل لعلماء أجلاء كان يسمعها بانتظام..
كتبًا كثيرة كان يتمنى أن يقرأها.. قرأها وفهمها وكانت طاقة نور له وبداية شعاع لا يخبو لحياة جديدة منّى نفسه بها بعد الخروج من عزلته..
نعم الله كثيرة:
كل يوم كان يمر عليه يرى أن قد أوشك هذا الباب أن يفتح ليخرج منه إنسان مختلف.. نعم مختلف ليس فقد معافى من الفيروس، لكنه أيضًا تعافى من كثير من أدواء القلب أهمها الغفلة عن النعم وتناسي شكر المنعم..
كان يقول لنفسه ألهذه الدرجة الخروج مجرد الخروج من باب الغرفة يعد نعمة.. مذاق الطعام الذي كان لا يستسيغه الآن كان نعمة.. المناظر الطبيعية التي يراها والروائح الجميلة كلها نعم لم نشعر بها يوم إلا بعد فقدها..
علاقتي بأولادي كانت رتيبة؛ فالعادة أن أراهم وأحتضنهم نعم هذه نعمة.. بدأ التفكير بشكل مختلف حوّل الغرف لواحة من الذكر أضاءت عليه ظلمته حتى كادت أحجارها تسبح معه، وتؤمِّن على دعائه..
خلوة مع الله:
يقول: يا لها من عزلة كنت في حاجة إليها ولم يكن بمقدوري أن أفعلها في ظروف غير المرض.. نعم المرض الذي يراه الناس بلاء كان سببًا في حياتي من جديد.. الفيرس هذا يستحق الشكر مني لأنه عرفني على ضعفي، وجدد علاقتي بخالقي.. حتى يقيني قد زاد وثقتي بالله فاقت الحدود كلها.. الفيرس لم يرفع مناعتي لمقاومة المرض فقط بل لمواجهة الحياة..
"اجعلوها خلوة مع الله".. كانت هذه دعوة الشاب لكل مريض كُتب عليه العزلُ حتى يستعذب العزلة بل ويتمناها..
التفكير خارج الصندوق:
جميل أن تفكر خارج الصندوق.. والأجمل أن تحرز نتائج تستفيد منها ويستفيد منها الآخرون.. كثيرون تحدوا الإعاقة ولم يعبأوا بكلام الناس ونظراتهم المثبطة..
لا تستسلم للأفكار الهدامة فهي مرض فوق المرض.. فكر بإيجابية واعلم أن فوقك إرادة علوية .. وقدرة مطلقة تسير لك الأمور .. وأن الحياة بطولها وعرضها دار فتنة وابتلاء.. اعلم أن الصبر جزاؤه عظيم، بل عميم غير محصور؛ قال تعالى: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب".
دعوة من القلب:
ويدعو الشاب كل الأصحاء أن يكثفوا علاقتهم بالله، وليتعرفوا عليه في الرخاء حتى يتولهم في الشدة.. كما يدعو كل المتعافين أن يستمروا على ما كانوا عليه من انكسار وضعف وزهد في هذه الدنيا التي كانوا ينظرون إليها نظرة وداع.. فالحقيقة أننا كلنا في ابتلاء عرفه من عرفه وجهله من جهله..
لم تكن العزلة يوما سجنًا عند من نظر إليها هذه النظرات.. وفكر فيها بهذه الطريقة.. لكنها زاد وضياء ونور تلقاه.. فاليأس موت قبل الموت والأوهام تقتل الأصحاء فما بالكم بالمرضى الضعفاء؟!