من أهم النصائح التي نحتاج إليها في وقتنا الحاضر ما جاء في قوله تعالى: " وأعرض عن الجاهلين"، فالجدال مع الناس بعضهم بعضا يزيد العزلة ويزيد من الكراهية والحسد، فما بالك إذا كان الجدال مع جاهل لا يحسن الجدال، فماذا يحدث حال استمر الجدال بينك وبينه، فإما أنه سيسئ إليك بجهله، أو سيتهمك بما فيه.
فإذا كان من جزاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يصيبك أذى الناس، فما بالك وأنت تجادل جاهلا غير مدرك لآداب الحديث، فعندما وعظ لقمان ابنه كان مما وعظه به قوله: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17]. قال ابن كثير: "علم أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، لا بد أن يناله من الناس أذى ، فأمره بالصبر".
اقرأ أيضا:
لماذا قرن الله تعالى بين عبادته وبين الإحسان إلى الوالدين؟ (الشعراوي يجيب)تكاليف الشرع
ذلك أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يأمر الناس بتكاليف الشرع وربما لا تشتهيه أنفسهم، ولا يرضي أهواءهم، وينهاهم عن هوى النفس وملذات الحس المحرمة، فيسمع منهم ما يؤذيه، ويرى منهم ما لا يرضيه، فلزم أن يوطن نفسه على الصبر، ولا يلتفت لكل قول أو فعل وإلا انقطع العمر في الأخذ والرد، وعاد الأمر بضرر أكبر.
ولهذا أمر الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
وهذه الآيةُ العظيمةُ تنهي الكراهية والجدال العقيم، وتريح النفس وهي بَلْسَم لكثيرٍ مِن الأَدواءِ التي يُبتلى بها كثيرٌ مِن العُقلاء؛ حيثُ يُبتلَون بِالحديث مع السفهاءِ الذين يُسيؤون إليهم بالكلامِ البذيءِ المؤذي.
وخَيرُ علاجٍ لتلك الإساءاتِ هو الإعراضُ عن الجاهلين؛ فمَن أَعْرَضَ عنهم حمى عرضه وأَرَاحَ نفسَه، وسَلِم مِن سَماعِ ما يؤذيهِ.
فانظر لقول الله تعالى في سورة الفرقان: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان:63].
فأنت إذا اشتبكت مع هؤلاء إما ستنساق إلى بذائتهم وترد عن نفسك بمثل ما يقولونه فيك، وبذلك تخسر وقارك، لذلك يأتي المظهرُ الخارِجِيِّ الثاني لعبادِ الرحمن، بالإعراض عن الجاهلين، حتى صَارَ فيهم سجيةً وطبعًا لا كُلفةَ فيه، وهو لسانهم الرطبُ ومَنطِقُهم العَذْب، فلا يردون الإساءة بالإساءة، ولا التهمة بمثلها، وإنما آثروا السلام، وكأنهم لا يعلمون شيئًا مما يقولُ الجاهلون.
فوائد هذه الآية وهذه النصيحة:
1/حفظ الرجل لشرفه وعزته
قال بعض الشعراء:
إني لأعرض عن أشياء أسمعها .. .. حتى يقول رجال إن بي حمقا
أخشى جواب سفيه لا حــياء له .. .. فسْـلٍ، وظن أناس أنه صــدقا
وقال أبو العتاهية:
والصـمت للمــرء الحلــيم وقــاية .. .. ينفي بها عن عرضه ما يكره
ورُوي أنَّ رجلا نَالَ مِن عمرَ بنِ عبدِ العزيز – رضي الله عنه - فلم يجبه، فقِيل له: ما يَمنعُك منه؟.... قال: التَّقيُّ مُلْجمٌ.
2/الترفع عن السِّباب؛ فذلك مِن شرف النَّفْس، وعلوِّ الهمة، كما قالت الحكماء: "شرف النَّفسِ أنْ تحمل المكارِهَ كما تحمِلُ المكارِم".
3/ استحضارُ كونِ الإساءة دليل على رفعةِ شأنِ المُساءِ إليه، وشرفه؛ فذلك مما يُهوِّنُ ما يَلقى من سبٍّ وتجريحٍ.
قال الإمام الشافعي: إذا سبني نــذل تزايدت رفــعة .. .. وما العيب إلا أن أكون مساببه
ولو لم تكن نفسي علي عزيزة .. .. لمـكنتها من كل نــذل تحــاربه
4/ الاستهانةُ بالمسيء؛ فذلك من ضروب العِزَّةِ والأَنَفَة، ومِن مُستحسَن الأخلاق.
وشَتَمَ رَجلٌ الأحنفَ، وجَعَلَ يَتبعُه حتى بَلَغَ حَيَّه، فقال الأحنفُ: يا هذا إنْ كان بَقِيَ في نفسِك شيءٌ؛ فهاتِه وانْصرف؛ لا يَسْمَعْكَ بعضُ سفهائِنا، فَتَلْقَى ما تَكْرَه.
5/إكرام للنفس، فيُكرِمُ المرء نفسَه بذلك، ويُكرِمُ قرابةَ السفيهِ الأبرياءِ الأعزاء؛ لأنهم لا ذنبَ لهم، ولهذا قيل: لأجل عينٍ تُكْرَمُ أَلْفُ عين".