قال الدكتور علي جمعة مفتي مصر السابق، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، إن الزنا من المحرمات العظيمة والكبائر الجسيمة، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 32]، وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:«لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ».
وقد اتفق أهل الملل على تحريمه، ولهذا كان حَدُّه من أشد الحدود؛ لأنه جناية على الأعراض والأنساب.
وقد عَرَّف العلماء الزنا تعريفًا شرعيًّا دقيقًا مُنضَبِطًا يجعل له صورة مُحَدَّدة لا تَلتبس بغيرها من الصور، بل تتمايز عنها، فقالوا: هو إيلاج الحَشَفة أو قَدرها (من العضو التناسلي الذكري) في قُبُل أنثى مُحَرَّمٍ مُشتَهًى طَبعًا لا شُبهة فيه.
شروط إثبات الزنا
ونظرًا لعظيم خطر هذه الجريمة وما يستتبعها من آثار عظيمة تَثبت في حق المتَّهَم بها وفي حق جماعة المسلمين فقد احتاط الشرع الشريف احتياطًا شديدًا في إثباتها، ووضع شروطًا دقيقة لترتب العقوبة عليها، فلم يثبتها إلا بأحد أمرين؛ أولهما: الاعتراف، أي الإقرار من الفاعل بأنه ارتكب هذه الجريمة، والثاني: البينة؛ بأن يشهد أربعة شهود بأنهم قد رأوا ذلك الفعل يَحصُل.
أما دليل الأول: فهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قَبِله ممن قام به ورَتَّب عليه عقوبتَه، كما في واقعة ماعز بن مالك، وواقعة المرأة الغامدية رضي الله تعالى عنهما "صحيح مسلم".
وأما دليل الثاني: فقوله تعالى: ﴿واللاتي يَأتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُم فاستَشهِدوا عَلَيَهِنَّ أَربَعَةً مِنكُم﴾ [النساء: 15]، وقوله تعالى: ﴿والذينَ يَرمُونَ المُحصَناتِ ثُمَّ لَم يَأتوا بأربَعَةِ شُهَداءَ فاجلِدُوهُم ثمانينَ جَلدةً ولا تَقبَلوا لَهُم شَهادةً أَبَدًا وأولَئِكَ هُمُ الفاسِقون﴾ [النور: 4].
وزاد الشرع في الاحتياط فحَضَّ القاضي على أن يُعَرِّض للمُقِرِّ على نفسه بالزنا ليُنكر ما أقر به؛ سترًا للقبيح -إن لم يكن هناك بينة-؛ فلما أتى ماعز بن مالك رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم واعترف بزناه، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ» رواه البخاري، ولم يَحُدَّه إلا بعد أن اعترف اعترافًا صريحًا بفعلته ونفى عن نفسه كل الاحتمالات الصارفة عن إقامة الحد عنه للشبهة.
وفي البينة أيضًا اشترط في الشهود أمورًا، منها: العدد، والعدالة، والتكليف، والحرية، والذكورة، وأن يحددوا المزني بها بعينها، وأن يذكروا الزنا مُفَسَّرا؛ فقد يظنون المفاخذة زنا، ومن ثَمَّ قيل: لم يثبت الزنا قط ببينة؛ نظرًا لعسر تحققها بشروطها المقررة.
وعليه: فإنَّ غير هذين الطريقين المعتبرين لا يُعَوَّل عليه في إثبات جريمة الزنا. وهذا هو ما نَصَّ عليه جماهير العلماء.
ولذلك فإنه يمكن القول بأنَّ التشريع الجنائي الإسلامي يَعتد في هذا الخصوص بما يعرف قانونًا بـ(نظام الإثبات المقيَّد)؛ وهو يعني أن المشرِّع هو الذي يحدد الدليل الذي ينبغي أن يستند إليه القاضي في الحُكم، ويُعَيِّن مدى قوته في الإثبات، مما يعني أنَّ الشرع هنا قد قيَّد حرية القاضي وألزمه بالحُكم بمقتضى طرق الإثبات المنصوصة شرعًا، ولم يتبع الشرع الإسلامي في حد الزنا خاصة -وفى الحدود عامة- ما اتبعه في أبواب أخرى كثيرة من الأخذ بما يعرف الآن قانونًا بـ(نظام الإثبات الحر) أو بـ(نظام الإثبات المعنوي)، والذي يقوم على الأدلة الإقناعية، أو نظام الاقتناع الشخصي للقاضي؛ الذي يعني ترك الحرية للقاضي في أن يُكَوِّن القناعةَ بالحُكم من أي دليل يُثبِت ذلك حتى لو لم يتقدم النص عليه. بينما اتبع الشرع في اللعان مثلًا ما يمكن أن ندرجه تحت ما يعرف قانونًا بـ(نظام الإثبات المختلط) والذي يجمع بين نظامي الإثبات المقيَّد والحر.
اقرأ أيضا:
هل الزواج بأحد قدر مكتوب أم قرار واختيار من الإنسان؟الوسائل المستحدثة
والأمور المستحدثة والوسائل العلمية المتقدمة التي ظهرت ويمكن الاستعانة بها كأدلة إثبات في هذا الباب؛ كتحليل البصمة الوراثية (DNA)، وكالتصوير المرئي، والتسجيل الصوتي، لا تعدو أن تكون مجرد قرائن لا ترقى لأنْ تستقل بالإثبات في هذا الباب الذي ضيَّقه الشرعُ، بل إن تحليل البصمة الوراثية الذي هو أقوى هذه الوسائل يرى الخبراء القانونيون أنه دليل غير مباشر على ارتكاب الجريمة، وأنه قرينة تقبل إثبات العكس، وهذا صحيح؛ لأن هذه التحاليل يعتريها الخطأ البشري المحتمل.
وحتى لو دلَّت البصمة الوراثية في نفسها على نفي النسب أو إثباته يقينًا، فإنَّ ذلك اليقين في نفسه يقع الظنُّ في طريق إثباته، مما يجعل تقرير البصمة الوراثية غير قادر على إثبات جريمة الزنا إثباتًا يقينيًّا، مما يجعل إثبات جريمة الزنا بذلك موضع شبهة وتردد، وغاية هذا التحليل أنْ يُثبِت أنَّ الماء المستقر في رحم المرأة هو ماء الرجل الفلاني، أو أنَّ هذا الحمل منه أو من غيره، وهذا إن ثبت لم يلزم منه ثبوت الزنا بالتعريف الشرعي السابق؛ لأنَّ مَنِيَّ الرجل قد ينتقل إلى رحم المرأة عمدًا أو خَطَأً أو عن قصد أو غير قصد؛ بأن يَتَشَرَّبه فرجُ المرأة من طريق استعمال ملابس أو أشياء ملوثة به مثلًا، أو تكون المرأة قد لابست المُحَرَّم ولكن دون حصول الإيلاج، وكل هذا لا يُعَد زنًا شرعًا.
وقد ذكر العلماء شيئًا من ذلك، ومنه ما جاء في "تبصرة الحكام" لابن فَرحون المالكي (2/ 97، ط. دار الكتب العلمية): [إن قالت: وُطِئْتُ بين الفخذين ودخل الماء إلى فرجي، فكان الحمل عن ذلك فينبغي أن يُدرأ الحَدُّ عنها؛ لأنَّ ذلك ممكن، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ»].
ولا يَعني هذا إنكارَ إفادةِ الوسائل العلمية للعلم الظني أو اليقيني -كُلٌّ بحسبه-، بل إن الشروط والصفات الواجب توافرها لإثبات حصول جريمة الزنا وما يستتبعه من آثار لا تقف عند حد ثبوت الجماع أو الحمل مثلًا وحسب، بل لا بُدَّ من شروط أخرى نحو: ألا يكون الوطء وطءَ شبهة مثلًا، وأن يكون قد حدث جماع حقيقي كامل، وليس مجرد استدخال لمني الرجل في فرج المرأة بأي حيلة أو وسيلة.
والشرع إنما يراعي فيما يعتبره من أسباب الإثباتِ العديدَ من الأبعاد النفسية والاجتماعية والأسرية، ولهذا قد تتداخل الأسباب وقد تتساقط، ولا يعني ذلك عدم كونها أسبابًا، ولا يعني تساقطُها إلا عدمَ اعتبارها في موضع سقوطها، وكونَ غيرها مقدَّما عليها بالاعتبار في هذه الحالة. وهنا قد نَصَّ الشارع على أسباب مُحَدَّدة لإثبات جريمة الزنا، وأسقط اعتبار غيرها مما اعتبره هو نفسه في أبواب أخرى. فدَلَّ ذلك على أنَّ الشارع قاصدٌ لعدم اعتبارها في هذا الباب بخصوصه، لا مطلقًا، فما توسع فيه الشارع توسعنا فيه بإذنه لنا في التوسع، وما ضَيَّقَه ضَيَّقناه ولم يكن لنا التوسع فيه، وإلا كان أخذنا بما لم يقبله الشارع من باب الافتئات عليه والعمل على خلاف قصده.
ومِن ثَم فإن عدم الاعتداد بهذه الوسائل في إثبات جريمة الزنا إما لأنها لا يتحقق معها إثباتُ أركانِ الجريمة كاملة بحسب ما يقوله الشرع، كما في تحليل الحامض النووي، وإما لأنها لا تعتبر قرينةً كافية، كما في التصوير بسائر أنواعه الضوئي والفيديو وغيرهما. وغاية ما يمكن أن يقال في الوسائل العلمية أنها أقيمت مقام الأربعة الشهداء، والمقرر في قواعد الإثبات الشرعية أنَّ ما أقيم مقام الغير لا يوجب إثبات الزنا به كما نص عليه الإمام الكرابيسي الحنفي في كتابه "الفروق" (1/ 297).
وعليه: فلا توجب الوسائل العلمية الحديثة كتحليل الحامض النووي وغيره إثبات جريمة الزنا. وقاعدة الاستصحاب الكلية الشرعية تؤيد أيضًا عدم اعتبار هذه الوسائل بما يندرج تحتها من قواعد: كقاعدة: "اليقين لا يزول بالشك"؛ فاليقين عدم الزنا وهو لا يزال بالشك، وقاعدة: "الأصل بقاء ما كان على ما كان عليه"؛ فالأصل هو عدم الزنا وصحة الفراش، وقاعدة: "الأصل براءة الذمة"؛ فالأصل براءة ذمة المتهم بالزنا عنه حتى يثبت ببينة أو إقرار، وقاعدة: "الأصل العدم"؛ فالأصل عدم حصول الزنا. وهذا الذي قررناه هو ما ذهب إليه أيضًا مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في القرار السابع (الدورة 16، لسنة 1422هـ/ 2002م)، وجاء في قراره ما نصه: لا مانع شرعًا من الاعتماد على البصمة الوراثية في التحقيق الجنائي واعتبارها وسيلة إثبات في الجرائم التي ليس فيها حَدٌّ شرعي ولا قصاص؛ لخبر «ادرءوا الحدود بالشبهات».