"أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا" (النساء: 77)
يقول العلامة الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي
نعرف أن الحق ساعة يقول: " ألم تر " يعني: إن كانت مرئية في زمنها، فلك أن تتأمل الواقعة على حقيقتها، وإن كانت غير مرئية فمعناها: ألم تعلم، ولكن العلم بإخبار الله أصدق من العين. وحين يقول الحق: { كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ } لا بد أن تكون بوادر مدّ الأيدي موجودة، فلن يقال لواحد لم يمد يده: كيف يدك. والكلام هنا في القتال، فيكون قد كفوا أيديهم عن القتال، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى جاء في المقابل فقال: { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ } إذن فقد قيل لهم: { كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ } لأن بوادر مدّ الأيدي للقتال قد ظهرت منهم إما قولاً بأن يقولوا: دعنا يا رسول الله نقاتل، وإما فعلاً بأن تهيأوا للقتال. وعندما يقول القرآن: { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ } دل هذا القول على وجود زمنين بصدد هذه الآية: زمن قيل لهم: كفّوا أيديكم، وزمن كُتِبَ عليهم القتال، فنفهم من هذه أنه كانت هناك بوادر المدّ اليد إلى القتال قبل أن يكتب عليهم القتال والذين قالوا: دعنا نقاتل هم: ابن عوف وأصحاب له، ولو كان الأمر بالقتال متروكا للرسول لكان قد أمرهم بمجرد أن قالوا ذلك.
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة. فقالوا: يا نبي الله، كنا في عزة، ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة قال: " إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم " فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال، فكفوا، فأنزل الله { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ }.
انتظار أمر السماء
وهذا دليل على أنه منتظر أمر السماء. وبعد ذلك كتب الله عليهم القتال، فلما كتب عليهم القتال تملص البعض منه.. مصداقاً لقول الحق: { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } فلماذا هذه الخشية وهم مؤمنون: هل هذا يعني أنهم خافوا الناس أو رجعوا في الإيمان؟. كما طلب بعض من بني إسرائيل القتال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىۤ إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ } [البقرة: 246].
إذن فعندما تصل المسألة إلى الأمر التطبيقي، قد يدب في نفوسهم الخَوَر والخوف، والحق سبحانه لم يمنع الأغيار أن تأتي على المؤمن، فما دام الإنسان ليس رسولا ولا معصوما فلا تقل: فلان عمل كذا أو فلان عمل كذا؛ لأن فلانا هذا لم يدع أنه معصوم، ولذلك يصح أن تأتي منه الأخطاء، وتأتيه خواطر نفسه، وتأتيه هواجس في رأسه، ويقف أحياناً موقف الضعف، ولذلك عندما يقول لك واحد: فلانة عملت كذا وفلان عمل كذا، قل له: وهل قال أحد إن هؤلاء معصومون؟ وما داموا غير معصومين فقد يتأتي منهم هذا.والله يقول: { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } وهذا يعني أنهم ليسوا سواء، ففريق منهم أصابه الضعف، وفريق آخر بقي على شدته وصلابته في إيمانه لم تلن له قناة ولم ينله وهن ولا ضعف، ثم انظر أدب الأداء. لم يقل: فلان أو فلان. بل قال: { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } وهذا يستدعي أن يبحث كل إنسان في نفسه، وهذه عملية أراد بها الحق الستر للعبد، وما دام الستر قد جاء من الرب، فلنعلم أن ربنا أغير على عبده من نفسه، ولذلك نقول دائما: ساعة يستر ربنا غيب الناس على الناس فهذا معناه: تكريم للناس جميعا.
اقرأ أيضا:
هل تعني عصمة الأنبياء أنهم لا يرتكبون أي ذنب حتى الصغائر؟وهب أن الله أطلعك على غيب الناس أتحب أن يطَّلع الناس على غيبك؟! لا، إذن فأنت عندما ترى أن ربنا قد ستر غيبك عن الناس وستر غيب الناس عنك فاعرف أن هذه نعمة ورحمة؛ لأن الإنسان ابن أغيار، فيصح أن واحداً أساء إليك في نفسه ولم يرغب أن تعرف ذلك، وأنت أيضاً تريد أن تتخلص منه وتكرهه، فلو أطلعه الله على ما في قلبك، أو أطلعك على ما في قلبه لكانت معركة يجرح فيه كل منكما كرامة الآخر، لكن ربنا ستر غيب خلقه عن خلقه رحمة بخلقه.
وأنت أيضاً أيها العبد قد تعصيه ويحب أن يستر عليك، ويأمر الآخرين ألا يتقصوا أخبارٍ معصيتك له. بالله أيوجد رب مثل هذا الرب؟ شيء عجيب؛ فقد تكون عاصياً له ويحب أن يستر عليك، ويأمر غيرك: إياكم أن تتبعوا عورات الناس، فقد يكون عندهم بعض الحياء، ويكونون مستترين في أسمالهم وملابسهم لماذا؟ حتى لا يفقدوا أنفسهم أو يضلوا طريق التوبة لربهم.
إذن فالحق يرحم المجتمع، ولكن الخيبة من الناس أنهم يلحون على أن يعلموا الغيب ويبحثوا عمن يكشف لهم الطالع. ونقول لمن يفعل ذلك: يا رجل لقد ستر الله الغيب عنك نعمة منه عليك، فاجعله مستورا كما أراد الله.
إن الحق سبحانه وتعالى يقول: { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } والواحد من هذا الفريق يخشى القتال والقتل، ويخاف من الموت؛ لأنه سيأخذه إلى جزاء العمل الذي عمله في الدنيا، ولذلك نجد أحد الصحابة يقول: أكره الحق.
فتساءل صحابي آخر: كيف تكره الحق؟ قال: أكره الموت ومن منا يحبه!
ولماذا يخشى الناس القتال؟
لأن الله حين يُميت؛ يُميت بدون هدم بنية، ولكن الأعداء في القتال قد يقطعون جسد الإنسان ويمثلون به، لكن إن استحضر العبد الجزاء على هذه المُثْلَة تهون عليه المسألة.{ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ } وكأنهم قد نسوا أنهم طلبوا القتال، كي نعرف أن النفس البشرية حين تكون بمنأى عن الشيء تتمناه، وعندما يأتيها تعارضه.
{ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } فهل جاء هذا الكلام منهم على سبيل الاستفهام؟ يوضح الله لنا ذلك: إنهم يقولون: يا رب لماذا ابتليتنا هذا الابتلاء، وقد لا نقدر عليه في ساعة الخوف من لقاء المعارك:؟ لذلك طلبوا أن يؤجل الله ذلك وأن يجعلهم يموتون حتف أنوفهم لا بيد العدو، وكلمة { إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } توضح أن كل واحد منهم يعي تماماً أنه سيموت حتماً، لكن لا أحد منهم يريد أن تنتهي حياته بالقتل.
https://www.youtube.com/watch?v=84Zdvsw-NUs
اقرأ أيضا:
إلى كل حزين: اغلق باب الحزن بمسامير الرضا والتسليم (الشعراوي)