من أفضل ما يبحث عنه الإنسان هو كيف يدخل في قلوب الناس، وينال استحسانهم وتقديرهم، فالسيرة الطيبة هي ما أفضل مايتركه الإنسان بعد موته، وربما عظم الرجل في مزية من المزايا فأحاط به الأصدقاء والمريدون من النابغين في تلك المزية، كما أحاط الحكماء بسقراط، والقادة بنابليون، بل ربما أحاط الصالحون بالنبي العظيم كما أحاط الحواريون بعيسى ابن مريم عليه السلام، وكلهم من معدن واحد وبيئة متقاربة، أما أعظم ذلك كله، فهى تلك التي تجذب إليها الأصحاب النابغين من كل معدن وكل طراز، وهى التي يقابل في حبها رجال بينهم من التفاوت مثل ما بين أبي بكر وعمر وبين عمر وعثمان، وبين خالد ومعاذ، وبين أسامة وابن العاص.
وقد وصل النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المنزلة، وسط الناس لأنه كان واحد من بينهم، يدخل الزائر فيسأل أيكم محمد (صلى الله عليه وسلم)، يلبس لبسهم، يتكلم بلغتهم، يعاملهم بقدر عقولهم، يعمل مثلما يعملون، يركب مثلما يركبون، بل حمل التراب معهم في الخندق، وكسر الصخر معهم أيضا! خيره الله بين أن يكون ملكا نبيا أو عبدا نبيا، اختار أن يكون عبدا يجوع يوما فيصبر، ويشبع يوما فيشكر، أحب أصحابه وأحبوه، فندر أن يتكرر هذا في التاريخ،.
بساطته وحب الصحابة له
كان النبي صلى الله عليه وسلم الرسول أبسط الناس، لكنه حصل على كل الحب، كل الاحترام، حتى أحبه المسلمون أكثر من حبهم لأنفسهم، رغم بساطته وتواضعه، في هذا تميز في الفكر، في الأسلوب، في العظمة هذا عكس ما يحدث في العادة، فرعون قال : " ألم يكن لي ملك مصروهذه الأنهار تجري من تحتي!"، لكن النبي لم يفعل، كان يربط الحجر على بطنه من الجوع!، مع فضله على كل من حوله صلى الله عليه وسلم كان يعترف للآخرين بالفضل.
يقول العقاد: ومع هذا كان يذكر فضلهم ويشيد بذكرهم، كما قال عن أبي بكر: ما أحد أعظم عندي من أبا بكر، واساني بنفسه وماله وأنكحني ابنته.
ويقول عن أبي بكر وعمر: أبو بكر وعمر مني بمنزلة السمع والبصر، وكما قال عن على: على أخي في الدنيا والآخرة. وكما قال عن بعض الصحابة، إن الله تعالى أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم على منهم، وأبو ذر، والمقداد وسلمان. وكما قال عن الأنصار جميعا وهو في مرض الموت: استوصوا بالأنصار خيرا، إنهم عيبتي التي أويت إليهم، فأحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم. وغيرهم من الصحابة.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي بين الناس يستمع لهم، لا فرق لديه بين قوي وضعيف، فقير وغني، سيد أو عبد، يمسك بيده الصبية ويسيرون به إلى مبتغاهم، اختار لهم اليسر وابتعد عن العسر، بحث في مصالح الناس وقدمها، في العدل بينهم وأقامه، كان هذا النبي في مجتمعه بين الناس ميزانا لإقامة العدل وإشاعة الرحمة، فضحوا من أجله بكل شئ، وأحبوه بكل ذرة في قلوبهم وأرواحهم.
تكلم النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس بلغتهم فلم يتعاظم على أحد، مع من أحب المال أعطاه، مع من أحب الملك وعده أن يمتلك الإسلام ما تحت يدي كسرى وقيصر، مع البدوي الذي دعا اللهم أدخلنى الجنة أنا والنبي محمد فقط ولا تدخل معنا أحدا فعلمه بأدب وقال: لقد تحجرت واسعا، أحب المسلمين حتى أنه سيقوم يوم القيامة يدعو: اللهم أني لا أقول لك نفسي، ولا فاطمة ابنتي، ولكن أمتي أمتي! تواضع مع البدوي الذي أمسك بخناقه وقال أعطني فأنت لا تعطيني من مال أبيك فصدقه على ما قال وابتسم في وجهه وأعطاه! تكلم مع عمر ابن الخطاب قبل الاسلام وقد كان يهابه الناس كل الناس وعندما زاره عمر خاف الناس عندما علموا بقدومه أما النبي فأمسك بخناقه وعنفه بقوة! تكلم مع ركانة المصارع القوي بلغته فصرعه.
يحكي ابن هشام في كتاب السيرة: كان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبدالمطلب بن عبد مناف أشد قريش، فخلا يوما برسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شعاب مكة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ركانة، ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه ؟ قال: إني لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرأيت إن صرعتك، أتعلم أن ما أقول حق؟ قال: نعم؛ قال: فقم حتى أصارعك!.
قال: فقام إليه ركانة يصارعه ؛ فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه وسلم أضجعه، وهو لا يملك من نفسه شيئا، ثم قال: عد يا محمد، فعاد فصرعه، فقال: يا محمد، والله إن هذا للعجب، أتصرعني! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه، إن اتقيت الله واتبعت أمري؛ قال: ما هو ؟ قال: أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني؛ قال: ادعها، فدعاها، فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فقال لها: ارجعي إلى مكانك. قال: فرجعت إلى مكانها.
ومع سراقة بن مالك الذي أراد أن يقبض على النبي فيحصل على الجائزة التي وعدت بها مكة لمن يقبض عليه وهى مائة ناقة: القصة يحيكيها سراقة فيقول: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرا إلى المدينة، جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده عليهم .
قال: فبينا أنا جالس في نادي قومي إذ أقبل رجل منا، حتى وقف علينا، فقال: والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا علي آنفا، إني لأراهم محمدا وأصحابه، قال: فأومأت إليه بعيني: أن اسكت، ثم قلت: إنما هم بنو فلان، يبتغون ضالة لهم ؛ قال: لعله، ثم سكت. قال: ثم مكثت قليلا، ثم قمت فدخلت بيتي، ثم أمرت بفرسي، فقيد لي إلى بطن الوادي، وأمرت بسلاحي، فأُخرج لي من دبر حجرتي، ثم أخذت قداحي التي أستقسم بها، ثم انطلقت، فلبست لأمتي، ثم أخرجت قداحي، فاستقسمت بها ؛ فخرج السهم الذي أكره (لا يضره). قال: وكنت أرجو أن أرده على قريش، فآخذ المائة الناقة. قال: فركبت على أثره، فبينما فرسي يشتد بي عثر بي، فسقطت عنه. قال: فقلت: ما هذا ؟ قال: ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها، فخرج السهم الذي أكره ( لا يضره ) قال: فأبيت إلا أن أتبعه. قال: فركبت في أثره، فبينا فرسي يشتد بي، عثر بي، فسقطت عنه. قال: فقلت: ما هذا ؟ قال: ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها، فخرج السهم الذي أكره ( لا يضره ) قال: فأبيت إلا أن أتبعه، فركبت في أثره. فلما بدا لي القوم ورأيتهم، عثر بي فرسي، فذهبت يداه في الأرض، وسقطت عنه، ثم انتزع يديه من الأرض، وتبعهما دخان كالإعصار .
قال: فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد مُنع مني، وأنه ظاهر.
قال: فناديت القوم: فقلت: أنا سراقة بن جعشم: انظروني أكلمكم، فوالله لا أريبكم، ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه .
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: قل له: وما تبتغي منا ؟ قال: فقال ذلك أبو بكر قال: قلت: تكتب لي كتابا يكون آية بيني وبينك.
قال: اكتب له يا أبا بكر .
قال: فكتب لي كتابا في عظم، أو في رقعة، أو في خزفة، ثم ألقاه إلي، فأخذته، فجعلته في كنانتي، ثم رجعت، فسكت فلم أذكر شيئا مما كان، حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرغ من حنين والطائف، خرجت ومعي الكتاب لألقاه، فلقيته بالجعرانة. قال: فدخلت في كتيبة من خيل الأنصار. قال: فجعلوا يقرعونني بالرماح ويقولون: إليك إليك، ماذا تريد ؟ قال: فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته، والله لكأني أنظر إلى ساقه في غرزه كأنها جمارة.
أراد سراقة المال، فوعده الرسول بأساور كسرى، وصدقه سراقة مع أنه لم يكن مسلما، فقد عرف النبي بصدقه حتى في الوعود ثم أسلم سراقة، ومات النبي، ثم مات أبو بكر، وفي عهد عمر عندما فتحت بلاد كسرى أخذوا كنوزها فأرسلوها إلى المدينة، كان سراقة قد شاب وهرم، كان يقول لن أموت حتى يفي النبي لي بوعده وأحصل على أساور كسرى! نادى عمر في المسجد ذات يوم: أين سراقة بن مالك؟ أتى سراقة فطلب منه عمر كتاب النبي الذي وعده فيه بأساور كسرى، أعطاه الكتاب وألبسه عمر أساور كسرى، بكى سراقة لشوقه وحبه للرسول، أبكي معه كل من في المسجد أيضا!.
اقرأ أيضا:
قصة النار التي أخبر النبي بظهورهامع الضعفاء
كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم مع الأطفال، يرحمهم، يتفهم حاجاتهم وييسر أمورهم، ابنه الصغير يركب ظهره أثناء السجود، فلا يعجل بالقيام حتى ينتهى من لهوه! حتى الرحمة بالحيوان الضعيف، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: دخلت امرأة النار في هرة ربطتها. فلا هي أطعمتها. ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض. حتى ماتت هزلا. وأخرى دخلت الجنة بسبب كلب، كانت عاهرة، فوجدت كلبا يلهث من العطش، نزلت إلى البئر وسقته بحذائها!.
وفي حديث أخر أنه صلى الله عليه وسلم قبل الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس فاستنكر هذا السلوك ولم يألفه، قال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً فنظر إليه النبي وقال: من لا يَرحم لا يُرحم.
كما دخل النبي صلى الله عليه وسلم حائطا لرجل من الأنصار، وجد فيه جملا فلما رأى النبي أتاه وبكى واشتكى له، فسأل النبي: من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فأتاه شابا فقال أنا يا رسول الله، فقال له الرسول: أفلا تتق الله في هذه البهيمة ملكك الله إياها؟ فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه. كان صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالناس، وأرحم الناس بالحيوان، كما أمر الناس بالرحمة والتراحم، فأشاع جوا من الطمأنينة والحب، وحل مشاكل الجفاء والقسوة، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، قال صلى الله عيه وسلم: من لا يرحم لا يرحم. وقال: لا يرحم الله من لا يرحم الناس. وقال: لا تنزع الرحمة إلا من شقي.