فتنة السعي وراء الدنيا من أشد الفتن التي تلتهم عمر الإنسان، وتدخله في صراع مع السراب، لتكون النهاية صفرية بعد مشوار لم يجن فيه المفتون سوى التعب والحسد، والحقد، فالمؤمن الحق يجعل همه واهتمامه منصب على عمل الآخرة فيحرص على اغتنام وقته في الصالحات والمسابقة في الخيرات، ولا ينسى نصيبه من الدنيا فيأخذ منها ما يبلغه ويصلح شأنه، ولا يجعل الدنيا هي الأصل فيكون سعيه هباءً منثورًا، ويتوحش صراعه مع هذا السراب.
لذلك دائما ماكان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من فتنة الدنيا، لعظم خطرها وشدة تأثيرها وقوة سحرها على النفوس الضعيفة، كما حذر منها القرآن في قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} .
ويقول الله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً}.
خطر السعي وراء فتنة الدنيا
من مخاطر السعي وراء فتنة الدنيا، أنها تورث القلب ظلمة ووحشة، وتضفي عليه نفاقا، لا تجده إلا عند الكافرين الذين لا يؤمنون بالأخرة، ويسعون فقط وراء الحياة الدنيا، كأنهم سيرثون الأرض ومن عليها، في الوقت الذي بشرنا فيها ربنا سبحانه وتعالى بأن الأرض يرثها عباده الصالحون، فالكافر أشد إعجابا بزينة الدنيا لأنه ركن إليها واتخذها دارا له أما المؤمن فيأخذ منها حاجته ولا يغتر بها لأنه يوقن أنها دار ممر وليست دار مقر وإذا أعجب بها ذكر الآخرة فهانت على نفسه ولم تفتنه.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله مبتلينا بزينة الدنيا ليختبر إيماننا فقال: «إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كيفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ» (رواه مسلم).
ومع جعل ربنا سبحانه وتعالى الدنيا دار اختبار وبلاء، فهي حقيرة عند الله كما ورد في الترمذي: «لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّه جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْها شَرْبَةَ مَاءٍ» .
وورد أيضا:«أَلا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلعونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرَ اللَّه تَعَالَى ومَا وَالَاه، وَعالمًا وَمُتَعلِّمًا».
سر ومفتاح النجاة
مما يزهد المؤمن في الدنيا ويبين حقارتها أن الله بسطها للكفار وفتح لهم زهرة الدنيا وعجل لهم طيباتهم في الدنيا كما قال تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}.
وقال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ}.
فسر مفتاح النجاة من هذه الفتنة أن يعرف المسلم حقيقة أحواله وأن يعتبر نفسه كالسجين لأنه متقيد بأوامر الشرع ونواهيه لا يتصرف وفق هواه ودنياه مهما بلغت تعد سجنا بالنسبة لما ينتظره من النعيم في الآخرة.
أما الكافر فحر يتصرف كيف يشاء ويفعل ما يريد لا يتقيد بدين ودنياه مهما قلت تعد جنة بالنسبة لما ينتظره من العذاب في الآخرة .
أنواع الفتنة:
-جمع الدنيا من الحرام من الربا والغش والسرقة أو عدم المبالاة في اكتساب المال أهو من الحلال أو الحرام فيخوض في الشبهات ويستسهل مظالم الناس قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يَأْتي علَى النَّاسِ زَمانٌ، لا يُبالِي المَرْءُ ما أخَذَ منه، أمِنَ الحَلالِ أمْ مِنَ الحَرامِ».
- المبالغة في الاشتغال بجمعها وفتنة القلب بزخرفها فتصده عن ذكر الله وتلهيه عن القيام بالفرائض وتوقعه في المحرمات قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
- الغلو في محبة الدنيا واللهث وراء سرابها حتى يغلب عليه الطمع والجشع والبخل فيمنع حقوق الناس ويتخلق بالكذب والتدليس على المسلمين قال تعالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وقال إبراهيم بن أدهم: (قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع وكثرة الحرص والطمع تورث كثرة الغم والجزع).
- أن تستحوذ الدنيا على جل همه وسعيه حتى تعمي بصيرته فيغضب لأجل الدنيا ويرضى لأجلها ويعطي لأجلها ويمنع لأجلها قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}.
قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: تَتَنافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدابَرُونَ، ثُمَّ تَتَباغَضُونَ، أوْ نَحْوَ ذلكَ، ثُمَّ تَنْطَلِقُونَ في مَساكِينِ المُهاجِرِينَ، فَتَجْعَلُونَ بَعْضَهُمْ علَى رِقابِ بَعْضٍ».
كيف يتعامل الناس مع الدنيا؟
1/من يغلب على قلبه حب الدنيا فيؤثرها على الآخرة ويفرط في دينه وينصرف همه وقلبه لعمارتها ولو على حساب خراب آخرته وهذا هو حال أهل الدنيا المفتونين بها الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وإذَا شِيكَ فلا انْتَقَشَ» (رواه البخاري).
2/ من يسعى لكسب الرزق لكن يجعل الدنيا في يده ولا يجعلها في قلبه ويقوم بحق الله وحقوق عبادة ويكون زاهدا فيها باذلا لفضلها قال تعالى: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}.
3/ من يعرض عن الدنيا بالكلية ويقعد عن طلب الرزق ولا يغني نفسه عن السؤال أو التعرض لإحسان الناس وعطاياهم فيذل نفسه وهذا مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وهو مسلك الصوفية من أهل البطالة قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}. وفي الصحيحين قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً علَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ له مِن أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ».
4/ من يكون عنده حرص شديد على جمع الدنيا محبا للاستكثار منها مولع بزخرفها والتوسع في متعها صارفا أكثر وقته في تحصيلها .
وقد ذم الله اليهود على هذه الخصلة الذميمة فقال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ}.
اقرأ أيضا:
أكثر ما يأكل الحسنات ويطرح بصاحبها في النار.. احترس من أكثر أمراض القلوبماهي فتن الدنيا؟
(1) فتنة المال: قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وإن فتنة أمتي الْمالُ» (رواه أحمد). وإذا فتن المؤمن بالمال رق دينه وذهب ورعه وزهد في عمل الآخرة وفرط في الفضائل.
(2) فتنة النساء: قال تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا}. قال ابن عباس رضي الله عنه: (أي: وخلق الله الإنسان ضعيفا أي: لا يصبر عن النساء). وفي الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أضَرَّ علَى الرِّجالِ مِنَ النِّساءِ» . ولذلك بدأ بذكر النساء لأن الفتنة بهن أشد قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ}. وقال صلى الله عليه وسلم: «إيَّاكُمْ والدُّخُولَ علَى النِّساءِ فقالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ: يا رَسولَ اللَّهِ، أفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قالَ: الحَمْوُ المَوْتُ» (متفق عليه). وقال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا لَا يَخْلُونَّ رَجُلٌ بِامْرَأةٍ إِلَّا كَانَ ثَالثَهُمَا الشَّيطانُ» (رواه الترمذي).
وكانت فتنة بني إسرائيل في النساء كما ورد في الصحيح: «فإنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ في النِّسَاءِ».
(3) فتنة السلطة، قال تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورا}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ».
(4) فتنة المعازف: قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا}. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (الغناء والله الذي لا إله إلا هو يرددها ثلاث مرات). وفي صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيَكونَنَّ مِن أُمَّتي أقْوامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ والحَرِيرَ، والخَمْرَ والمَعازِفَ».
(5) فتنة السُّكْر: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرامٌ، ومَن شَرِبَ الخَمْرَ في الدُّنْيا فَماتَ وهو يُدْمِنُها لَمْ يَتُبْ، لَمْ يَشْرَبْها في الآخِرَةِ» (رواه مسلم).