ضرب أعلى مثل في حب الرسول صلى الله عليه وسلم والبر بالوالدين.. كان يشتاق إلى لقاء الرسول الكريم ليبايعه على الإسلام.. ويصبح من الشباب المسلم الذي يجاهد بنفسه في سبيل الله وإلاء راية دينه رغم صغر سنه، وذات يوم أراد أن يحقق هذه الأمنية.. فانطلق إلى المسجد فوجده حافلا بالمهاجرين والأنصار...يستمعون إلى حبيبهم المصطفى صلى الله عليه وسلم.. فأخذ مكانه في مؤخرة الصفوف، حيث يجلس الصبية الغلمان .إنه الصحابي طلحة بن البراء رضي الله عنه.
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، من حديثه، وبدأ الصحابة رضوان الله عليهم يأخذون طريقهم إلى خارج المسجد...اقترب طلحة بن البراء من رسول الله، وأخذ يقبل يديه في شغف ومحبة...ويقول له: أنا طلحة بن البراء ابن عمر.. جئت أبايعك على الإسلام....فمرني بما أحببت...لا أعصي لك أمرا...وينظر الرسول إلى هذا الغلام الذي أقبل عليه يطلب مبايعته، ويربت كتفه قائلا: " وإن أمرتك بقطيعة والديك؟". فيرد طلحة "لا".. لأن له أما يبرها أشد البر....ويحبها أعمق الحب...ولا يتصور أن يصبح عاقا لوالديه.... فيكرر عليه الرسول العبارة السابقة...ويكرر طلحة الرد نفسه.., لكنه في المرة الثالثة قال: "نعم"...لأن حبه للرسول كان أقوى من حبه لوالديه...ولعله الذين ينطبق عليهم الحديث الشريف: "لا يومن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما"...
وحين نطق طلحة بكلمة "نعم" ابتسم في وجهه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: "يا طلحة.. إنه ليس في ديننا قطيعة رحم...ولكن أحببت ألا يكون في دينك ريبة"....
خرج طلحة من مجلس الرسول بعد أن أسلم وحسن إسلامه...وقرر أن يعد نفسه للمهمة الكبرى...وهي الجهاد في سبيل الله... كان يخرج كل يوم إلى بقعة خارج المدينة، ممهدة كساحات الشباب...ويتدرب مع الصبية والغلمان على فنون الحرب...ووسائل القتال.. وكان كل صبي يتمنى أن يكون مثل ابني فراء اللذين قتلا أبا جهل في يوم بدر...رغم أنهما صبيان حدثان لم يبلغا مبلغ الشباب.. كان مصرع أبي جهل على يدي صبيين عملا بطوليا خارقا، وآية من آيات الله....وكان حديث المهاجرين والأنصار...كما كان إسلام طلحة بن البراء بالصورة التي تم عليها...موضع إجلال الشيوخ والشباب...كان درسا من دروس الحب في الله ورسوله...ودرسا من دروس البر بالوالدين...وحين تذكر درجات المحبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم....يتبوأ طلحة بن البراء قمة عالية بين أحباب النبي الكريم.
وقد شاء الله أن تكون حياة طلحة قصيرة الأمد...إلا أنها عامرة بكل صنوف الحب والوفاء والبر والمثل العليا....كان لا يتواني يوما عن الدرب على السلاح...ولا يتخلف يوما عن الصلاة خلف الرسول...وحان يحفظ من القرآن الكريم ما تتسع له واعيته الباطنة...ومن تعاليم الإسلام ما يقدر على حفظه واستيعابه...وكان يتعجل اليوم الذي يأذن له فيه الرسول بالاشتراك في قتال المشركين.
إلا أن المنية عاجلته قبل أن يقاتل في سبيل الله...فقد مرض مرضا شديدا، وكان ذلك في فصل الشتاء....وكان يصاب بين الساعة والساعة بإغماء وغيبوبة...ونمى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن طلحة مريض...فذهب ليعوده فوجده قد أشرف على الموت...فقال لأهله: "إني لا أرى إلا طلحة مقبوضا. فأذنوني به وعجلوا.. فإنه لا ينبغي لمسلم أن يحبس بين ظهراني أهله.. وإن أفاق فأرسلوا إلى".
اقرأ أيضا:
"القلم أحدُّ اللسانين واللبن أحد اللحمين" .. من هو أول من خط بالقلم؟وعند منتصف الليل أفاق طلحة...فسأل أهله: هل عادني (زارني) النبي صلى الله عليه وسلم..؟ فقالوا له: نعم...وأخبروه بما قاله الرسول...فقال لهم: إذا مت الساعة فلا ترسلوا إلى النبي..لأني أخاف عليه من اليهود.. كما أخاف أن تلسعه دابة...أو يصيبه شيء.. ولكن أقرئوه مني السلام....وقولوا له: فليستغفر لي...ثم أخذ يردد الشهادتين، وهو يلفظ أنفاسه في أناة وسكينة وهدوء..
كان طلحة بن البراء رضي الله عنه حتى في لحظات موته...لا يفكر إلا في الرسول...كان يخشى عليه من أي سوء...وآثر أن يموت ويدفن دون أن يحضر الرسول...مع أنه كان يتمنى أن يلقي النبي عليه نظرة الوداع...ولكن حبه للنبي أقوى من كل أمنية...وأعظم من كل رغبة..
قام أهل طلحة بدفنه ليلا قبل أن يطلع الفجر...ولما خرج الرسول للصلاة.. أخبروه بموت طلحة.. فأدى صلاة الفجر...ثم صحب أصحابه إلى حيث يوجد قبره وصفهم حول القبر...ورفع يديه وقال: "اللهم ألق طلحة تضحك إليه...ويضحك إليك".
اقرأ أيضا:
خباب بن الأرت سادس من أسلموا.. هكذا صبر ولم يعط الكفار ما سألوااقرأ أيضا:
من عجائب المروءة.. "عمرو بن العاص" يستقبل أهل مصر على دابة هزيلة