الحلف والقسم بالله هو أسره ما يلجأ إليه الإنسان في الوقت الحالي بداعي وبدون داعي، وربما تكون مبادرة الإنسان السريعة واللجوء للحلف بالله لمجرد السخرية أو الاستهزاء من الغير أو المزاح، وربما لمجرد الضغط على صديق يرجى قبوله دعوة على الغذاء، وربما تكون الدعوة مجرد " عزومة مراكبية" كما يطلق عليها أهل البلد، فهي من باب المجاملة فقط، ولكنها في نهاية الأمر لجب ان تكون مغلفة بالحلف والقسم الذي يتحمل وزره صاحبه ويأثم بسببه إثما عظيما دون أن يدري.
حتى أصبح أحدنا لا يكاد يركب جملة مفيدة بدون الحلف، والرجال والنساء في ذلك سواء، وهو أمر يستدعي التوقف والعلاج، وأقبح من ذلك كله أن نجد بعضنا يحلف بما يخالف المشروع، نسمع بعضهم يقول: وحياة الله!، ويقول الآخر: وحياة القرآن! بلهجته الدارجة، وهذا بلا خلاف ينذر أن خصلة النفاق تفرخت في المجتمع المسلم، وقد ثبت في الحديث الصحيح عند الإمام أحمد وغيره، أنه سيظهر الكذب بعد العصور الفاضلة، فيحلف البعض قبل أن يستحلف، ويشهد قبل أن يستشهد! إشارة إلى تهاون واستمراء الكذب والحلف عليه .
لتصبح المحصلة في نهاية الأمر تطور القضية من اللجوء إلى الحلف والقسم على كل شيئ حتى يصدقك الناس، إلى استمراء الكذب، ووقوع مكانة القسم بالله في قلوب الناس فأصبح الناس لا يهتز لهم قلب أمام هذا الحلف مع استمراء الكذب فيه، وهو أمر عظيم .
فانتشرت بين المسلمين، وفي مجتمعاتهم، كثرة الحلف في صغائر الأمور وكبائرها، بحاجة وبدون حاجة، وبحق وبغير حق، سواء في دعوى صادقة أو نافقة، فاستسهلها الناس، حتى فقد توقيرهم لله سبحانه وتعالى، وما أعظم هذا الذنب، حيث قال عنه ربنا جل وعلا: " وما قدروا الله حق قدره".
ويتنوع القسم بين الناس من حيث اللفظ الذي يطلقه أحدهم، فمنهم من يحلف بالله أيمانا مغلظة، ومنهم من يقسم بالنبي، وهو شرك في رأي العلماء، ومنهم من يقسم برحمة أمه ورحمة أبيه، ومنهم من يقسم بالكعبة والأماكن المقدسة، وربما في نهاية الأمر يكون هذا الحلف أو القسم بتعدد ألفاظه وأنواع من قبيل الكذب والمخادعة والسخرية.
اظهار أخبار متعلقة
ونسي المسلم الواقع في هذه المعصية، أن الحلف بدون حاجة حرام شرعا، وصرح به القرآن الكريم، يقول الله تعالى: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) /البقرة: 224/، والعُرضة على وزن فعلة مبالغة في منع ذكر اسم الله تعالى للأيمان به، لأن الإكثار من الحلف أدعى لنقض المحلوف عليه ، ويؤدي ذلك إلى تهاون باسم الله وحقه، والملفت للنظر في هذه الآية أن المولى سبحانه نهى عن إكثار الحلف باسمه في أعمال الخير، من أنواع البر والصلاح والإحسان، فإذا كان يمنع الإكثار بالحلف برا .. فكيف بمن يحلف إثما وفجورا وهو يعلم!.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: نزلت في تكثير اليمين بالله نهيا أن يحلف الرجل به برا فكيف فاجرا.
والحكمة في منع كثرة الحلف، أنها صفة الكفار والمنافقين أوضح لنا ذلك القرآن الكريم : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ) /القلم: 10/، والحلاف كما سبق هو كل من يردد الحلف ويكثر فيه ليوهم الناس به، وقد رجح أكثر المفسرين أن الآية تشمل جميع الكفار بما فيهم أبو جهل، والأخنس بن شريق والوليد بن المغيرة، كون الحلف صنيعهم المعتاد.
كما أن كثرة الحلف دين أهل النفاق ولا يستبعد منهم ذلك لأن بطانة المنافقين تنطوي على الكذب والمراوغة، ولا سبيل لستر عوراتهم إلا بالحلف، لذلك جاءت سورة التوبة تفضح طويتهم، وتكررت فيها لفظة (يحلفون) في السورة بصيغ المضارع المتنوعة، للدلالة على التجدد والحدوث، وهي تشير إلى أن الحلف والإكثار منه هو لباس المنافقين ووشاحهم الساتر، ونديمهم الملازم، وكان هذا سببا من تسمية سورة براءة بالفاضحة، أو الحافرة لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، وقد أبان المولى سبحانه مقصدهم بكل هذه الأيمان المتكررة في قوله: (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) /التوبة: 96/ حيث كان هدفهم من الحلف أن يرضوا المؤمنين ولا يفعلون ذلك لوجه الله ولا للبر كما أفاد ابن عطية.
وكثرة الحلف دين أهل النفاق ولا يستبعد منهم ذلك لأن بطانة المنافقين تنطوي على الكذب والمراوغة
وليس أكثر إثما بعد هذه التحذيرات القرآنية وما جاء في السنة النبوية المطهرة، من أن ينتهج المسلم هذا الطريق الذي يؤدي لجهنم، وقد بين الله وقاحة هذا الصنيع من المنافقين والكفار.
اقرأ أيضا:
غض البصر طريقك لصفاء الذهن وراحة القلب ورضا الرب .. تعرف على فوائدهموقف النبي من القسم
كان لطرح العلاج أمام هذه القضية وهذا المرض المستشري وجب أن نتتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان حلفه، وفيما كان يحلف، ومتى يفعل ذلك، وكيف كانت أخلاقه، فإن هديه خير الهدى.
فمن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في القسم والحلف بالله:
– كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حلف على شيء فإنه يدل على عظم شأن هذا الشيء وأهميته وخطورته وأحاديثه صلى الله عليه وسلم في ذلك كثيرة، فكان لا يستهين بالأيمان أو يسترسل فيها. مثاله أنه أقسم فقال صلى الله عليه وسلم: (والذي لا إله غيره، لا يحل دم رجل مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا ثلاثة…) الحديث. وهذا في مبالغة التحذير من أجل مجانبة هذا الأمر، وكذا يقسم أحيانا للمبالغة في سرعة التنفيذ.
– كانت عادته صلى الله عليه وسلم أنه يحلف بأسماء الله وصفاته وبما يدل على أفعاله سبحانه، وهناك أربعة ألفاظ معينة كان يواظب عليها كما ذكر ابن حجر، أحدها: والذي نفسي بيده، وكذا نفس محمد بيده، يبدأ بعضها بلفظ “لا”، وبعضها بلفظ “أما” وبعضها بلفظ “ايم”. وثانيها: لا ومقلب القلوب، ثالثها: والله، ورابعها ورب الكعبة.
– كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من الحلف الكاذب، أو الفاجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين كاذبة مصبورة متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. صحيح البخاري.
– نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف بكل ما سوى الله من المخلوقات والجمادات والطواغيت، فقال عليه الصلاة والسلام: إني أنهاكم أن تحلفوا بآبائكم. وسمع رجلا يحلف بأبيه فقال: لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق ومن حلف له بالله، فليرض ومن لم يرض بالله فليس من الله.
_ كان صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بإبرار القسم أو المقسِم، وجعل ذلك من حق المؤمن على أخيه.
– كان صلى الله عليه وسلم حلف في أكثر من ثمانين موضعا كما ذكر ابن القيم في زاد المعاد، وكان صلى الله عليه وسلم يستثني في يمينه تارة، ويكفّرها تارة ويمضي فيها تارة. فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال يوما «والله، لأغزونّ قريشا»، ثم قال: «إن شاء الله»، ثم قال: «والله لأغزون قريشا» ، ثم قال: «إن شاء الله». رواه أبو داود، وقال في سبل الهدى: رجاله رجال الصحيح.
– كان صلى الله عليه وسلم إذا حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها كفر عن يمينه وأتى التي هي خير، وفي هذا عدم وجوب إمضاء اليمين، وجواز الرجوع عنه مع التكفير.
– كان صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بإبرار القسم أو المقسِم، وجعل ذلك من حق المؤمن على أخيه، وإبرار القسم هو فعل ما أراده الحالف ليصير بذلك بارا، واشترط أن يكون القسم لا يتضمن معصية أو مفسدة أو مشقة، فقد روى الإمام أحمد برجال الصحيح عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: أهدت إليّ امرأة ثمرا في طبق فأكلت بعضه، فقالت: أقسمت عليك إلّا أكلت بقيّته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «برّيها، فإن الإثم على المحنث».