تعد سورة الإنسان من أفضل سور القرآن الكريم، التي في مجملها تشرح لهذا الإنسان الحائر في الدنيا بدايته، وكيف كان خلقه، وماهو دوره الحقيقي في الحياة الدنيا، لكي يصل إلى حالة الطمأنينة التي تقر قلبه، وتفتح له ما يبحث عن مفاتحه في اتجاهات شتى، فالسورة في مجموعها هتاف ندي من الخالق للمخلوق بألا يقع في حالة التيه ويلتفت عن الغاية الحقيقية، إلى مكر وخديعة الدنيا ، وأن يلتجئ إلى الله , ويبتغي رضاه , ويتذكر نعمته , ويتقي عذابه , ويلزم اليقظة لابتلائه , وإدراك حكمته في الخلق والإنعام والابتلاء والإملاء .
يبدأ ربنا سبحانه وتعالى سورة الإنسان باستفهام يشرح صدرك حينماتضيق عليك الدنيا لتعرف كيف خلقك ربك، وماهي حقيقتك فيقول في أول السورة: "هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً (1) .
تبدأ السورة في هذه الآية الافتتاحية بلمسة رفيقة للقلب البشري:أين كان قبل أن يكون ? من الذي أوجده ? ومن الذي جعله شيئا مذكورا في هذا الوجود ? بعد أن لم يكن له ذكر ولا وجود،
ثم يأتي ربنا سبحانه وتعالى بما يقر به قلبك، من خلال ذكر حقيقتك، حتى لا تغتر، بالحديث عن حقيقة أصل الإنسان ونشأته , وحكمة الله في خلقه , وتزويده بطاقاته ومداركه، فيقول: " إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)".
ثم بعد ذلك يكشف الله سبحانه وتعالى كيف هدى الإنسان للطريق، وأعانه على الهدى , وتركه بعد ذلك لمصيره الذي يختاره، لينظر كيف سيكون: "إما شاكرا وإما كفورا".
ومع ذلك الانتظار لماسيؤول إليه حالك، تستمر الرحمات الربانية لك والنفحات التي تكشف حرص الله عليك، ومعيته لك، فيهتف لك وأنت على مفترق الطرق، لتحذيرك من طريق النار، وترغيبك في طريق الجنة , بكل صور الترغيب , وبكل هواتف الراحة والمتاع والنعيم والتكريم: إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا . إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا . عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا .
ثم يرغبك أكثر حرصا عليك برسم سمات هؤلاء الأبرار في عبارات كلها انعطاف ورقة وجمال وخشوع يناسب ذلك النعيم الهانئ "يوفون بالنذر , ويخافون يوما كان شره مستطيرا , ويطعمون الطعام - على حبه - مسكينا ويتيما وأسيرا، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا . إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا".
اظهار أخبار متعلقة
اظهار أخبار متعلقة
جزاء الخائفين من اليوم العبوس القمطرير
ثم تعرض جزاء هؤلاء القائمين بالعزائم والتكاليف , الخائفين من اليوم العبوس القمطرير , الخيرين المطعمين على حاجتهم إلى الطعام , يبتغون وجه الله وحده , لا يريدون شكورا من أحد , إنما يتقون اليوم العبوس القمطرير !.
ليكون الجزاء هو "وقاهم الله شر ذلك اليوم , ولقاهم نضرة وسرورا , وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا . متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا . ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا . ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير , قوارير من فضة قدروها تقديرا . ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا , عينا فيها تسمى سلسبيلا . ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا . وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا . عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق , وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا . إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا .
هل رأيت جزاء ونعيما مثل ذلك؟، فأنت حينما تقم بعمل جيد ربما يكافئك مديرك بمكافأة مالية أو يصدر قرارا بترقيتك، مهما بلغت من شأن في العمل، لكن نظرت إلى هذه النتائج المتتابعة، وهذه المكافأت المتوالية من رب العالمين، فلم تقف الجائزة على مكافأة واحدة، ولكنها بدأت بالحب والوقاية من أي عذاب في يوم القيامة، ثم تلقي البشرة بنضارة الوجه ونورانيته، وإدخال السرور عليك وإلباسك الحرير، وإدخالك الجنة، والتظليل عليك بشجر الجنة المثمر بأشهى أنواع الفاكهة والطعام، ثم الرفاهية في الطعام من أنية ذهبية وفضية، وخدمتك من ولدان وخدم أشبه اللؤلؤ لشدة جمالهم، ثم يستفيض ربنا في استكمال باقي صور النعيم والملك التي ستنزل عليك لمافعلت في الدنيا.
ثم إذا انتهى معرض النعيم اللين الرغيد المطمئن الهانئ الودود اتجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتثبيته على الدعوة - في وجه الإعراض والكفر والتكذيب - وتوجيهه إلى الصبر وانتظار حكم الله في الأمر ; والاتصال بربه والاستمداد منه كلما طال الطريق، ومعها تكون التذكرة للناس أجمعين: "إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا . فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا . واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا , ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا".
ثم يذكرنا ربنا مجددا بخوفه علينا، من اليوم الثقيل على الناس الذي لا يحسبون حسابه ; والذي يخافه الأبرار ويتقونه , والتلويح لهم بهوان أمرهم على الله , الذي خلقهم ومنحهم ما هم فيه من القوة , وهو قادر على الذهاب بهم , والإتيان بقوم آخرين ; لولا تفضله عليهم بالبقاء , لتمضي مشيئة الابتلاء . ويلوح لهم في الختام بعاقبة هذا الابتلاء: "إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا . نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا . إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا . وما تشاؤون إلا أن يشاء الله , إن الله كان عليما حكيما . يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما ".
وبعد انتهاء هذا الهتاف إلى الجنة ونعيمها الهنيء الرغيد , يعالج حالة المشركين المصرين على العناد والتكذيب , الذين لا يدركون حقيقة الدعوة , فيساومون عليها الرسول لعله يكف عنها , أو عما يؤذيهم منها . وبين المساومة للنبي وفتنة المؤمنين به وإيذائهم , والصد عن سبيل الله , والإعراض عن الخير والجنة والنعيم . . بين هذا كله يجيء المقطع الأخير في السورة يعالج هذا الموقف بطريقة القرآن الكريم:(إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا . فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا . واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا . ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا).
ليلفت ربنا سبحانه وتعالى عبده إلى مصدر التكليف بهذه الدعوة , وينبوع حقيقتها . . إنها من الله . هو مصدرها الوحيد . وهو الذي نزل بها القرآن . فليس لها مصدر آخر , ولا يمكن أن تختلط حقيقتها بشيء آخر لا يفيض من هذا الينبوع . وكل ما عدا هذا المصدر لا يتلقى عنه , ولا يستمد منه , ولا يستعار لهذه العقيدة منه شيء , ولا يخلط بها منه شيء . . ثم إن الله الذي نزل هذا القرآن وكلف بهذه الدعوة لن يتركها . ولن يترك الداعي إليها , وهو كلفه , وهو نزل القرآن عليه .
ولكن الباطل يتبجح , والشر ينتفش , والأذى يصيب المؤمنين , والفتنة ترصد لهم ; والصد عن سبيل الله يملكه أعداء الدعوة ويقومون به ويصرون عليه , فوق إصرارهم على عقيدتهم وأوضاعهم وتقاليدهم وفسادهم وشرهم الذي يلجون فيه ! ثم هم يعرضون المصالحة , وقسمة البلد بلدين , والالتقاء في منتصف الطريق . . وهو عرض يصعب رده ورفضه في مثل تلك الظروف العصيبة !
اظهار أخبار متعلقة
فاصبر لحكم ربك
لتجيء اللفتة الثانية:(فاصبر لحكم ربك , ولا تطع منهم آثما أو كفورا).
فالأمور مرهونة بقدر الله . وهو يمهل الباطل , ويملي للشر , ويطيل أمد المحنة على المؤمنين والابتلاء والتمحيص . . كل أولئك لحكمة يعلمها , يجري بها قدره , وينفذ بها حكمه . . (فاصبر لحكم ربك). . حتى يجيء موعده المرسوم . . اصبر على الأذى والفتنة . واصبر على الباطل يغلب , والشر يتنفج . ثم اصبر أكثر على ما أوتيته من الحق الذي نزل به القرآن عليك . اصبر ولا تستمع لما يعرضونه من المصالحة والالتقاء في منتصف الطريق على حساب العقيدة: (ولا تطع منهم آثما أو كفورا). . فهم لا يدعونك إلى طاعة ولا إلى بر ولا إلى خير . فهم آثمون كفار . يدعونك إلى شيء من الإثم والكفر إذن حين يدعونك إلى الالتقاء بهم في منتصف الطريق ! وحين يعرضون عليك ما يظنونه يرضيك ويغريك ! وقد كانوا يدعونه باسم شهوة السلطان , وباسم شهوة المال , وباسم شهوة الجسد .
(فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا). . فإنه لا لقاء بينك وبينهم ; ولا يمكن أن تقام قنطرة للعبور عليها فوق الهوة الواسعة التي تفصل منهجك عن منهجهم , وتصورك للوجود كله عن تصورهم , وحقك عن باطلهم , وإيمانك عن كفرهم , ونورك عن ظلماتهم , ومعرفتك بالحق عن جاهليتهم !.
(واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا , ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا).
هذا هو الزاد . اذكر اسم ربك في الصباح والمساء , واسجد له بالليل وسبحه طويلا . . إنه الاتصال بالمصدر الذي نزل عليك القرآن , وكلفك الدعوة , هو ينبوع القوة ومصدر الزاد والمدد . . الاتصال به ذكرا وعبادة ودعاء وتسبيحا . . ليلا طويلا . . فالطريق طويل , والعبء ثقيل . ولا بد من الزاد الكثير والمدد الكبير . وهو هناك , حيث يلتقي العبد بربه في خلوة وفي نجاء , وفي تطلع وفي أنس , تفيض منه الراحة على التعب والضنى , وتفيض منه القوة على الضعف والقلة .
فيحذر بعد ذلك ربنا من التعجل (إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا).
توحي الآية بغفلتهم عن رؤية الخير لأنفسهم . فهم يختارون العاجلة , ويذرون اليوم الثقيل الذي ينتظرهم هناك بالسلاسل والأغلال والسعير , بعد الحساب العسير !.
يتلو ذلك التهوين من أمرهم عند الله الذي أعطاهم ما هم فيه من قوة وبأس , وهو قادر على الذهاب بهم وتبديل غيرهم منهم . ولكنه يتركهم لحكمة يجري بها قدره القديم:(نحن خلقناهم وشددنا أسرهم , وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا). .
وهذه اللفتة تذكر هؤلاء الذين يعتزون بقوتهم , بمصدر هذه القوة , بل مصدر وجودهم ابتداء . ثم تطمئن الذين آمنوا - وهم في حالة الضعف والقلة - إلى أن واهب القوة هو الذي ينتسبون إليه وينهضون بدعوته .
ثم يوقظهم إلى الفرصة المتاحة لهم , والقرآن يعرض عليهم , وهذه السورة منه تذكرهم:(إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا).
فضل سورة الإنسان
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: ((قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان: 1]، حتى ختمها، ثم قال: ((إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء وحق لها أن تئطَّ، ما فيها موضع قدر أربع أصابع إلا ملك واضع جبهته ساجدًا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتُم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا، وما تلذَّذتُم بالنساء على الفُرش، ولخرجتُم إلى الصعدات تجأرون)).