بقلم |
محمد جمال حليم |
الخميس 11 فبراير 2021 - 06:40 م
من يتأمل حال الناس يدرك أنهم بين شيئين متضادين: صالح وطالح، صادق وكاذب، مطيع وعاص، وبهذا استحق إحدى نهايتين أما رضا الله وأما سخطه جنته أو ناره.. ولذا جاءت تعاليم الإسلام محفزة على الصلاح مقربة من رضا الله واعدة بالجنة محذرة من النار.. وفي هذه السطور.. نتوقف عند فضيلة الصدق وهي أحدى الخصال الحميدة التي تعد بمثابة جوهر وعرض مبنى ومعنى للمؤمن إذ الصدق يكون داخليا بيم الإنسان وربه ونمه صدق النية والعزم كما يكون بينه وبين الناس في القول والعمل.. والصدق هو الطريق الفصل بين المؤمن وغيره به تتمايز الخطى وتظهر الاختلافات بين الناس ففي ساعة الجد لا يظهر ولا يصمد ولا يقاوم إلا الصادق في حين تذهب الكثرة الكاثرة هباء منبثا.. ولذا ارتفعت درجة الصدق والصادقين الذي يحبون الله ويحبهم الله.. ومن الجميل أن ننوه ان خطبة الجمعة القادمة والتي تقررها وزارة الأوقاف المصرية عن هذه لفضيلة فضيلة الصدق.. فما معناه إذا وما فضله؟ دلالة الصدق: يمكن أن نعرف الصدق بأنه إخبار الإنسان بما يعتقد أنه الحق، ويشمل الإخبار كل ما يفهم المقصود سواء كان بالكلام أو بالعمل، كالكتابة والإشارة، وعكس الصدق الكذب وهو إخبار الإنسان بما يعتقد أنه غير الحق. ويشمل الإخبار الصمت الذي يغير الحقيقة أو يخفيها ويشمل حذف بعض الحقيقة إذا كان لما حذف تأثير فيما ذكر فكل من الصمت والحذف يعتبر كذبًا، وقد اعتبر القرآن الكريم قول المنافقين لرسول الله: (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) كذبًا، فقال: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) (المنافقين:1)؛ وذلك لأنه إخبار بما لا يعتقدون صدقه، قال صاحب البصائر: "والصدق: مطابقة لقول الضمير والمخبر عنه معًا ومتى انخرم شرط من ذلك لا يكون صدقًا تامًا، بل إما ألا يوصف بالصدق وإما أن يوصف تارة بالصدق، وتارة بالكذب على نظرين مختلفين؛ كقول الكافر من غير اعتقاد: محمد رسول الله فإن هذا يصح أن يقال: صدق لكون المخبر عنه كذلك ويصح أن يقال: كذب لمخالفة قوله ضميره وبالوجه الثاني إكذاب الله تعالى المنافقين حيث قالوا: "إنك لرسول الله" فقال: "والله يشهد إن النافقين لكاذبون". هذا ما قاله صاحب البصائر، وهو كلام له وجاهته: ونحن نسير في هذا البحث على التعريف الذي سبق أن ذكرناه، وهو يتفق مع تعريفه الذي وصفه بأنه تعريف للصدق التام، وهو ما نعتقد صحته. صدق الرسول عليه الصلاة والسلام: أ- لم تجد السيدة خديجة رضي الله عنها ما يطمئن الرسول، ويذهب خوفه عقب لقاء جبريل أول مرة إلا اتصافه بالفضائل التي من أهمها الصدق. فقالت له: "كلا والله ما يخزيك الله أبدًا: إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق". ب- وأجمعت قريش على صدقه عليه الصلاة والسلام فعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: لما نزلت "وأنذر عشيرتك الأقربين" صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادى: يا بني فهر. يا بني عدى- لبطون قريش- حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقًا!! قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ". ج - قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إننا لا نكذبك، وما أنت فينا بمكذب، ولكن نكذب بما جئت به فأنزل الله تعالى: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام: 33). د- وفي اللقاء بين ملك الروم (هرقل) وبعض تجار قريش بالشام، عندما قال هرقل: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: فقلت أنا أقربهم نسبًا. فقال: أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عن ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا الرجل: فإن كذبني فكذبوه. ثم سأل هرقل أبا سفيان عدة أسئلة، ثم علق على إجابة أبي سفيان، وكان مما جاء في كلامه، "وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا. فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله". هـ- التقى الأخنس بن شريق بأبي جهل يوم بدر فقال له: يا أبا الحكم، ليس هنا غيرى وغيرك يسمع كلامنا، أخبرني عن محمد صادق أم كاذب؟ فقال أبو جهل: والله إن محمدًا لصادق، وما كذب قط. و- وعملت قريش على ترويج بعض الإشاعات ضد النبي صلى الله عليه وسلم لتصد القبائل عن الدخول في الإسلام فقالوا: إن محمدًا ساحر وقالوا تارة: إنه كاهن وأخرى إنه شاعر، ورابعة إنه مجنون فتصدى لهم رجل من أعتى أعداء الدعوة وهو النضر بن الحارث! فقال: يا معشر قريش، إنه والله لقد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا، أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم ساحر لا والله ما هو بساحر لقد رأينا السحرة ونفثهم، وعقدهم. وقلتم كاهن لا والله ما هو بكائن، قد رأينا الكهنة، وتخالجهم، وسمعنا سجعهم. وقلتم شاعر لا والله ما هو بشاعر قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها: هزجه، ورجزه. وقلتم مجنون لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته، ولا تخليطه. يا معشر قريش فانظروا في شأنكم فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم. وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش وممن كان يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ز- وأعظم مظهر من مظاهر صدقه عليه الصلاة والسلام هو تبليغ كل ما أوحى إليه من ربه؛ إذ لو لم يكن صادقًا لكتم بعضه مما فيه عتاب له، مثل قوله تعالى: "عبس وتولى" وقوله: "عفا الله عنك لما أذنت لهم"، وقوله: "وتخفي في نفسك ما الله مبديه، وتخشى الناس، والله أحق أن تخشاه"، وقد قال تعالى: "ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد عنه حاجزين". الترغيب في الصدق: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صادقًا، وحث أتباعه علي هذا الخلق العظيم، وإليكم بعض أحاديثه الشريفة: (أ) عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابًا) (أخرجه البخاري). (ب) وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت رجلين أتياني قالا: الذي رأيته يشق شدقه فكذاب، يكذب بالكذبة تحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به إلى يوم القيامة) (رواه البخاري). (جـ) وعن عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) قالت: فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله؟ فقال: (إن الرجل إذا غرم، حدث فكذب، ووعد فأخلف) (رواه البخاري). (د) وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان) (رواه البخاري). (ه) وقال عليه الصلاة والسلام: (تحرّوا الصدق، وإن رأيتم أن فيه الهلكة، فإن فيه النجاة، واجتنبوا الكذب، وإن رأيتم أن فيه النجاة، فإن فيه الهلكة). (و) وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما عمل الجنة؟ قال: (الصدق، إذا صدق العبد برّ، وإذا برّ آمن، وإذا آمن دخل الجنة، قال: يا رسول الله، وما عمل النار؟ قال: الكذب، إذا كذب العبد فجر، وإذا فجر كفر، وإذا كفر.. يعني دخل النار) (رواه أحمد). (ز) ولقد كان الرجل يكذب عنده الكذبة، فما يزال في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث فيها توبة). الصدق وتربية الأطفال: يهتم الإسلام اهتمامًا بالغًا بتربية النشء على خُلق الصدق، وغرس هذه الفضيلة في الطفل مع حداثة سنه، حتى يشبّ عليها؛ لأنه إن تربي على الكذب، فلن يعرف للصدق قيمة، ولا للحق مكانة بعد ما يكبر. عن عبدالله بن عامر أنه قال: دعتني أمي يومًا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا فقالت: ها تعال أعطيك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أردت أن تعطيه؟ قالت: أعطيه تمرًا. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما إنك لو لم تعطيه شيئًا، كتبت عليك كذبة) (أخرجه أحمد). هكذا يجب أن يربى الأطفال على خلق الصدق. الصدق والمزاح: الإسلام وإن أباح الترويح عن النفوس والدعابة، وكره السآمة والعبوس، لكنه لا يجيز الكذب وسيلة للضحك والمزاح، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بسامًا ضحاكًا، وكان يمازح أصحابه، ويضاحكهم، حتى قال له أصحابه: يا رسول الله، إنك تداعبنا؟ قال: (إني لا أقول إلا حقًا) (أخرجه البخاري)، وفي رواية: (إني لأمزح، ولا أقول إلا حقًا). وقد وجه أصحابه إلى التزام الصدق في المزاح، وحذرهم من الوقوع في الكذب، بسبب المزاح، وهذه بعض أحاديثه: (أ) عن بُهذ بن حكيم قال: حدثني أبي عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ويل للذي يحدث، فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له) (أخرجه أبو داود) (ب) وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة، لمن تراء المراء، وإن كان محقًا، وببيت في وسط الجنة، لمن ترك الكذب، وإن كان مازحًا، وببيت في أعلي الجنة لمن حسن خلقه) (أخرجه أبو داود). (ج) وعن عبدالله بن السائب عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه لاعبًا، ولا جادًا، فإن أخذ أحدكم عصا أخيه، فليردها إليه) (أخرجه البخاري). (د) وعن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ففزع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلمًا) (أخرجه أبو داود). (ه) وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه قال: (لا تكثروا الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب) (أخرجه البخاري). (و) وعن سفيان بن أسيد الحضرمي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثًا، هو لك به مصدِّق، وأن له به كاذب) (أخرجه أبو داود). فهذه الأحاديث كلها توجه إلى التزام الصدق في المزاح، وتنهي عن الكذب فيه. الصدق والمدح: ولما كان الثناء على الآخرين، والمدح لهم، ربما جرّ إلى الكذب والنفاق وقول الزور، وخاصة إن كان الممدوح من ذوي السلطان والجاه من هنا كان على المسلم أن يتنبه جيدًا لما يتفوَّه به، فإن كلماته ستوزن له أو عليه. عن عبدالرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: (أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ويلك قطعت عنق صاحبك: قطعت عنق صاحبك- مرارًا- ثم قال: من كان منكم مادحًا أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلانًا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدًا، أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه) (أخرجه البخاري). وعن أبي معْمَر قال: قام رجل يثني علي أمير من الأمراء، فجعل المقداد يحثي عليه التراب، وقال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثي في وجوه المداحين التراب) (أخرجه مسلم). هكذا فهم الحديث المقداد رضي الله عنه فحثى التراب بالفعل في وجه من يمدح الحاكم، وكم من عبارات تقال في مثل هذه الحالات كلها دجل ونفاق وعون للشيطان فيزداد الانحراف والواجب إسداء النصح لله تعالى. وهناك فريق من الناس يتخذ المدائح الفارغة بضاعة يتملق بها الأكابر ويصوغ من الشعر القصائد المطولة ومن النثر الخطب المرسلة، فيكيل الثناء جزافًا، ويهرف بما لا يعرف وربما وصف بالعدالة الحاكم الجائرين ووصف بالشجاعة الأغبياء الخوارين، ابتغاء عرض من الدنيا عند هؤلاء وأولئك. هذا الصنف من الأذناب الكذبة أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بمطاردتهم حتى يرجعوا عن تزويرهم بوجوه عفرها الخزي والحرمان. ولا يمنع الإسلام المدح بالصفات التي رغب فيها الدين إذا كان الممدوح بالفعل متحليًّا بها ويكون الهدف عندئذ هو تشجيعه على التمسك بها ودفع غيره على التأسي به، فيعم الخير وتشيع الفضيلة. أنواع الصدق: الصدق نوعان: صدق محمود وصدق مذموم، والصدق المحمود يكون في النية وفي الحديث وفي العمل والصدق المذموم يكون في الغيبة وفي النميمة وإليك التفصيل. الصدق المحمود: 1- الصدق في النية: هذا أدق أنواع الصدق الذي ربى الرسول عليه الصلاة والسلام الصحابة عليه، وبين لهم أن جزاءه عظيم: فقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه". ولما صدق "أنس بن النضر" في نيته عندما قال بعد غزوة بدر: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه أما والله لأن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ليرين الله ما أصنع وقاتل في "أحد" حتى قتل نزل قوله تعالى: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه". ومن الأحاديث التي توضح معنى الصدق في النية: قال عليه الصلاة والسلام: "أول من يسأل يوم القيامة ثلاثة: رجل أتاه الله العلم فيقول الله تعالى: ما صنعت فيما علمت؟ فيقول: يارب كنت أقوم به آناء الليل، وأطراف النهار، فيقول الله تعالى: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، بل أردت أن يقال: فلان عالم، ألا فقد قيل ذلك. ورجل آتاه الله مالاً فيقول الله تعالى: لقد أنعمت عليك فماذا صنعت؟ فيقول: يارب كنت أتصدق به آناء الليل وأطراف النهار. فيقول الله تعالى: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، بل أردت أن يقال: فلان جواد ألا فقد قيل ذلك. ورجل قتل في سبيل الله تعالى، فيقول الله تعالى: ماذا صنعت؟ فيقول: يارب أمرت بالجهاد فقاتلت حتى قتلت. فيقول الله: كذبت وتقول الملائكة: كذبت بل أردت أن يقال فلان شجاع. ألا فقد قيل ذلك. قال أبو هريرة راوي الحديث: ثم خط رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي وقال: "يا أبا هريرة، أولئك أول خلق تسعر نار جهنم بهم يوم القيامة"، فهذا التكذيب لهؤلاء الثلاثة إنما هو في النية. 2- الصدق في الحديث: فالمسلم يحفظ لسانه عن الكذب، وقول الزور، وشهادة الزور، وعن كل ما يخالف الحقيقة: أ- فعن عبد الرحمن بن أبى بكرة عن أبه رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ -ثلاثًا- قالوا: بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين- وجلس وكان متكئًا فقال: ألا وقول الزور، قال: فما زال يكررها، حتى قلنا: ليته سكت". ب- وعن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين كاذبة لقى الله وهو عليه غضبان ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله جل ذكره: " إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ". جـ- وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بطريق يمنع منه ابن السبيل، ورجل بايع رجلا، لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه ما يريد وفى له وإلا لم يف له ورجل ساوم رجلا بسلعة بعد العصر فحلف بالله لقد أعطى بها كذا وكذا فأخذها". د – وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه". هـ - وعن أسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة قالت: يا رسول الله إن لي ضرة فهل عليّ جناح إن تشبعت من زوجي غير الذى يعطيني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور". و- وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: فقلت يا رسول الله إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهيه بعد ذلك كذبًا؟ قال: "إن الكذب يكتب كذبًا حتى تكتب الكذبة كُذيبة". ز- وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذب اللسان بعذاب لا يعذب به شيء من الجوارح، فيقول: يارب، لم عذبتني بعذاب لم تعذب به شيئًا من الجوارح؟ فيقال له: خرجت منك كلمة، بلغت مشارق الأرض ومغاربها فسفك بها الدم الحرام وأخذ بها المال الحرام وانتهك بها الفرج الحرام، فوعزتي لأعذبنك بعذاب لا أعذب به شيئا من الجوارح". 3- الصدق في العمل: وهذا يقتضي أن تكون أعمال المسلم مصدقة لما في قلبه، فلا يغش ولا يخدع ولا يغرر بأحد بل تصدق أعماله كما تصدق أقواله: قالوا في معنى قوله تعالى: "ليسأل الصادقين عن صدقهم" أي يسأل من صدق بلسانه عن صدق فعله وفي قوله تعالى: "رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه" أي حققوا العهد بما أظهروا من أفعالهم. وقد أطلق الله الصدق على الإيمان، وإيتاء المال وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد والصبر في البأساء والضراء وحين البأس، وبعض هذه أعمال بالجوارح كما ترى قال تعالى: "لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ". وكذلك قال سبحانه: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ".