تحدثنا في مقال سابق عن "سفر الأزواج"، وأنماطه، ودوافعه، ونتحدث عبر هذا المقال عن مراحل الغربة و "سيكولوجية الفراق"، بين الأزواج، والزوجات.

يمر الناس بالمراحل التالية حين يفترقون، وكل مرحلة تختلف في شدتها ، ومدتها،  باختلاف الأشخاص والظروف المحيطة بهم ، ووسائل الدعم المتاحة، ومعنى الغربة بالنسبة لهم.

1- مرحلة الصدمة

 وفيها يكون المفترقون في حالة ذهول وتنتابهم مشاعر متضاربة وغير واضحة المعالم، وكأن هذه المشاعر الحادة والمؤلمة فوق الاحتمال لذلك يكون الجهاز النفسي في حالة خدر مؤقت أشبه بالتخدير الذي يعطى لكي يتم قطع عضو من جسد الإنسان، ولحظة الفراق وما يواكبها من صدمة انفعالية،  مزلزلة ، يصورها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي في ديوانه "جوابات حراجي القط العامل في السد العالي إلى زوجته فاطنة أحمد عبد الغفار" فيقول:

شهرين دلوقت..

من يوم ما عنيكي يا فاطنة..

بلت شباك القطر..

لسوعتي بدمعك ضهر يدي.

ما عرفت ساعتها يا مرتي أضحك والاّ ابكي..

ما عرفت ساعتها إذا كنت بعوز القطر يقف والاّ

يولي..

حسيت بعنيكي الحيرانة يا فاطنة بتقوللي..

وتسكت..

وتقوللي..

حسيت واليد بتخطفها يد الجدعان..

بالقلب في جوفي ما عارف إن كان بردان.. دفيان

2- مرحلة الفقد

وفيها يتأكد فقد الحبيب بعد الإفاقة من صدمة الفراق، ويتأكد الفراغ الذي تركه الحبيب المسافر في المكان وفي الأحداث وفي القلب.

ويصور الأبنودي هذه المرحلة بقوله:

زوجي حراجي..

وصلنا خطابك..

شمينا فيه ريحة الأحباب

ربنا ما يوري حد غياب

ليه تتأخر كده يا حراجي..؟

طب والنبي وكإن ورقتك دي

أول قنديل يتهز في جوف الدار

أول ندعة ضوّ

الدار من غيرك يا بو عزيزه.. هوّ

وعزيزه وعيد..

من غيرك يا حراجي

زي اليتما في العيد..

الواد على صغره حاسس بالغربة وبالبعد..

ولا عاد حتى بيطلع يلعب في القمّارى مع الولد..

أطلع وأخش.. أطلع وأخش القاه.. غيمان

وكإنه محروق له دكان

ويقوللي:

"فين يامّه أسوان..؟

وأبا.. سابنا ليه يامّه؟ ما يمكن زعلان..؟"

شهرين يا بخيل

ستين شهر وستين ليل؟

النبي يا حراجي ما اطول قلبك

لا قطع بسناني الحتة القاسية فيه

3- مرحلة الإنكار

والنفس لكي تعيش حياتها اليومية تحاول تفادي مشاعر الفقد المؤلمة،  فتستخدم وسيلة الإنكار ، وكأنها تضرب بستارة تغطي هذه المشاعر ، فنجد من افتقدوا الأحباب بعد فترة قد اندمجوا في حياتهم اليومية،  وكأنهم نسوا مشكلة الفراق بعض الشيء ، والإنكار وسيلة دفاعية،  نفسية ، تخفف على الإنسان بعضًا من ألم المواجهة للأشياء التي تؤلمه، ولكي ينجح الإنكار أكثر يبدأ الناس في الاهتمام بالأمور الحياتية الظاهرية،  هربًا من المشاعر المؤلمة،  ويتضح هذا الإنكار في الخطاب التالي من "حراجي القط" لزوجته:

أما بعد فهذا تاني خطاب

باعتين طيّه ما قدّرنا المولى عليه

وعنبعتلك في ظرف الجمعة.. طرد

الطرحة والجزمة بتوعك..

وكساوي عزيزة وعيد

وهنا يبدو الاهتمام باحتياجات الأسرة المادية بعيداً عن النواحي العاطفية.

4- مرحلة الشوق والحنين

ويعود في هذه المرحلة شوق جديد وحنين شديد إلى الحبيب الذي غاب وابتعد، وتبدأ هذه المرحلة بإحساس شديد بالوحدة يصوره الزوج المسافر في قوله:

عارفه يا مرتي الراجل في الغربة يشبه إيه..؟

عود دره وحداني.. في غيط كمون

حسيت بالخوف ناشع في عروقي زي البرد

...

العين مشقوقة..

والبال..

زي الغلّه اللي بتسرسب من يد الكيال

وندهت عليكم قلت: يا فاطنة أنا بانده

سامعاني؟

سامعيني يا عيال؟

النبي لولا الخوف واللومه من الرجاله..

لاركبت القطر وعدت

ويلي الشعور بالوحدة حالة من الاشتياق والرغبة في العودة، وتكثر أحلام العودة في النوم واليقظة، وفيما يلي صورة من حلم يقظة لزوج غائب (كما يصوره الأبنودي):

مشتاق ليكي شوق الأرض لبل الريق

شوق الزعلان.. للنسمة.. لما الصدر يضيق

مشتاق.. وامبارح..

قاعد.. قدامي عرق جديد.. وف يدي الفحار

غابت عن عيني الحته اللي أنا فيها.. وغابوا الأنفار

تحت الأنفاق

ولقيت نفسي يا فاطنة طيره مهاجره

والطيره جناحها محتار

ولقيت نفسي على بوابة جبلاية الفار..

باخد الأحباب بالحضن

كانس كل دروب الجبلايه بديل توبي

طاوي كفوفي وباخبّط بيهم على صدر الدار

قلتلي مين؟

مسيت الدمعه في حزنك بايدي.

مسيت الدمعه اللي في حزنك.

ما عرف خدتك في حضاني ولا انتي خدتيني في حضنك

وعزيزه وعيد حواليا يشدو الجلابيه

ويشموا في غيبتي وفي إيديا..

وقعدت بيناتكم.. وبكيت.. وضحكت

لما لمحت عصايتي وتوبي.. وفاسي.. ومداسي

5- مرحلة الحزن

وهي تحدث حين يتأكد الفراق ويصبح حتميًا ويتلاشى الأمل في العودة، وهنا تسود مشاعر الحزن والتي ربما تتحول إلى اكتئاب حقيقي.

وتظهر مشاعر هذه المرحلة في رسالة من زوجه (فاطنة) إلى زوجها المسافر

(حراجي) حيث تقول فيها:

مش عارفة ليلة امبارح تعبتني وبايته عيانة..

أنا واخداك..

علشان لما أمد إيديّا ألقاك جنبي..

مالقاكش هناك.

حتقول مال فاطنه؟.. فاطنه زهقانة..

أهو يوم فرحانة ويوم قلقانة.

إحنا واخدينك يا حراجي عشان تبقى معانا

وعشان نبقى معاك

يا تاخدنا معاك يا حراجي

يا ترجع تقعد في البيت ده معانا

البيت كده زي ماكون بقى واسع وحيطانه طولانه

حتضيعنا الغيبه يا حراجي..

الغيبه تخلي الناس تنسى الناس

كل ما قولّك مشتاقه بتبعد

...

الضلمه بقت في الليل بتسود قوي يا حراجي..

وانت مش راح تاجي

...

طب شوف لي حل

لاحسن من ليلة امبارح..

زي ماكون دلقوا في نخاشيشي..

بحرين خل.

مش طايقه امشي في الدار

وحاسه كإني مخنوقة.. وعقلي مندار

6- مرحلة النسيان

وحين لا يستجيب الحبيب الغائب لنداءات العودة واستغاثات القرب، يتجاوز الطرف الآخر مرحلة الحزن ويبدأ في النسيان، وربما إقامة علاقات إنسانية جديدة تملأ الفراغ وتعطي معنى جديداً للحياة،  وهذا منحنى خطر في علاقة المحبين حيث يحمل هذا تهديدًا للعلاقة القوية السابقة واحتمالات تحولها إلى علاقة مصالح اجتماعية شكلية،  وفي هذه المرحلة تتوارى المشاعر ويحل محلها التعاملات المادية، وهذا ما تعكسه رسالة "فاطنة" إلى زوجها "حراجي":

في جوابك أبقى تقوللي هم بيدولك كام في الشغل..

علشان نعرف بس!!

وان كانت فايضه فلوس في صوابعك..

إبعتهم..

إحنا أولى بيهم

بدل ما يدوبوا في جيبك نزرع بيتنا

القرش الناس بتجيبه عشان تعمل عوزه..

مش علشان ترميه في الجيب..

يستنى عوزه لسه قاعد في الغيب.

اقرأ أيضا:

اقرأ أيضا: