تتلخص رأس مشكلاتنا في هذه الأيام الحالكة، أنّنا لا نقبل على اللهِ تعالى إلّا حين تجبرنا الظروف والعقبات والأزمات على دقِ باب الرجاء.. ومع ذلك يرفع عنا ربنا الهم ويفرج الكرب، فماذا لو جئنا إليه لا نريد إلّا رضاه؟، على قدر إقبالك على الله تعالى وانشغالك به ستستريح نفسك، وتتخلص من وساوس شياطين الإنس والجن، وسيأتي الفرج، ويزول الهم، وبقدر ابتعادك عن الله ستثقل عليك الدنيا بهمومها، وستغلق الأبواب في وجهك.
قيل لمعروف الكرخي: كيف اصطلحت مع ربك؟
فقال: بقبولي موعظة ابن السماك رحمه الله.
قيل له: وكيف؟
قال: كنت ماراً بالكوفة، فدخلت مسجداً أبتغي صلاة العصر، وبعد الصلاة وجدت رجلاً يعظ الناس،
فقلت في نفسي : لأجلسن وأستمع
فكان مما قال : من كان مع الله تارة وتارة = كان الله معه تارة وتارة،
ومن أعرض عن الله = أعرض الله عنه،
ومن أقبل على الله بكليته = أقبل الله سبحانه عليه بكامل رحمته
فأدهشني كلامه، ووقع في قلبي، فقلت: إن مكنني ربي لأفوزن
بأعلاها.
فأقبلت على ربي بكليتي، فأقبل ربي علي بواسع رحمته.
ويقول الإمام المناوي رحمه الله: "ينبغي أن يكون بين العبد وبين ربه معرفة خاصة بقلبه، بحيث يجده قريبًا للاستغناء له منه، فيأنس به في خلوته، ويجد حلاوة ذكره، ودعائه ومناجاته وطاعته، ولا يزال العبد يقع في شدائد وكُرب في الدنيا والبرزخ والموقف، فإذا كان بينه وبين ربه معرفة خاصة كفاه ذلك كله".
اقرأ أيضا:
كيف تخلق في نفسك الرغبة في النجاح؟ نماذج محمدية تدلك على التفوقكيف تقبل على الله؟
1- الإكثار من ذكر الله وأداء النوافل والطاعات:
إن النوافل باب عظيم من أبواب الخير، وميدان كبير للمسابقة في الطاعات، ونعمة عُظمى أكرم الله بها عباده ليزدادوا منه تقربًا، ويحظوا بالرحمة والرضوان، ويُزكوا بها أنفسهم، ويحيوا قلوبهم.
2- الحرص على الوقت:
لأن الاستفادة بالوقت في تعلم العلم الشرعي، وذكر الله تعالى، وتلاوة القرآن، وغير ذلك من الطاعات، يُلين القلب ويجعله منبسطًا منشرحًا سليمًا، يهفو إلى مرضاة الله تعالى ويعرض عن المخلوقين.
روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)).
وصدق الشاعر حين قال:
إذا مر بي يومٌ ولم أقتبس هُدًى ♦♦♦ ولم أستفد علمًا فما ذاك من عُمري
3- الدُّعاء
قصد التقرُّب إلى الله في العبادة أمر جوهري في تحقيقها. ومن دونه لا تكون العبادة.. فالعبادة في حقيقتها حركة إلى الله، وإقبال على الله، وقصد لوجه الله، وابتغاء لمرضاته.
والدُّعاء إقبال على الله، ولا يوجد في العبادات عبادة تُقرِّب الإنسان إلى الله أكثر من الدُّعاء. وكلّما تكون حاجة الإنسان إلى الله أعظم، وفقره إليه تعالى أشد، واضطراره إليه أكثر، يكون إقباله في الدُّعاء على الله أكثر.
فإنّ الحاجة والاضطرار يُلجئان الإنسان إلى الله، وبقدر ما يشعر بهذه الحاجة يكون إقباله على الله، كما أنّ العكس أيضاً كذلك. يقول تعالى: (كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق/ 6-7).
إنّ الإنسان ليطغى ويعرض عن الله بقدر ما يتراءى له أنّه قد استغنى، ويُقبل على الله بقدر ما يعي من فقره وحاجته إلى الله.
وتعبير القرآن دقيق (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) فلا غنى للإنسان عن الله، بل الإنسان فقر كلّه إلى الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر/ 15)، ولكنّه يتراءى له أنّه قد استغنى، وغرور الإنسان هو الذي يخيل إليه ذلك. ف
إذا تراءى له أنّه قد استغنى عن الله أعرض ونأى بجانبه وطغى. فإذا مسّه الضر، وأحسّ بالاضطرار إلى الله عاد وأقبل عليه.
إذن الدُّعاء في حقيقته إقبال على الله، ومَن يدع الله تعالى، ويتضرّع إليه، فلابدّ أن يقبل عليه تعالى. وهذا الإقبال هو حقيقة الدُّعاء وجوهره وقيمته.
ورمضان المبارك هو شهر الدُّعاء، حيث جاءت في سياق آيات الصيام لفتة عجيبة تخاطب أعماق النفس، وتلامس شغاف القلب، وتسرِّي عن الصائم ما يجده من مشقة، وتجعله يتطلع إلى العوض الكامل والجزاء المعجل، هذا العوض وذلك الجزاء الذي يجده في القُرب من المولى جلّ وعلاّ، والتلذذ بمناجاته، والوعد بإجابة دعائه وتضرعه، حين ختم الله آيات فرضية الصيام بقوله سبحانه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186).
فهذه الآية تسكب في نفس الصائم أعظم معاني الرضا والقُرب، والثقة واليقين، ليعيش معها في جنبات هذا الملاذ الأمين والركن الركين.
فالدُّعاء يعني الانقطاع إلى المعبود وطلب التقرُّب منه والتوفيق للطاعة والبُعد عن المعصية، وكلّما انقطع العبد إلى ربّه أكثر ووثَّق الصلة به بالتضرُّع والرجاء فسوف ينعم بفيضٍ عظيمٍ ويتقرّب إليه أكثر.
وشهر رمضان هو شهر التجارة مع الله، فتاجروا مع الله تجارة تنجيكم من عذاب أليم، فإنّ تجارة الله رابحة.