الكثير من الشباب اليوم يجد نفسه تحت أسر سلوكٍ ما يرغب في التوقف عنه، ولا تنتهي القائمة عند الإدمانات بأنواعها، والتدخين، والسلوكيات القهرية والاعتيادية، بل ونمط الحياة غير الصحي.
ومن خلال ملاحظاتهما الدقيقة لتعافي مدمني الخمر، قام الباحثان كارلو ديكليمنت وچيمس بورشاسكا، بتحديد ست مراحل للتعافي من سلوكٍ اعتيادي، وهي على الترتيب: مرحلة ما قبل الاعتبار، ومرحلة التفكير، ومرحلة الاستعداد/القرار، ثم التنفيذ ثم الاستدامة ثم الإنهاء بـ(التعافي أو الانتكاسة).
في مرحلة "ما قبل الاعتبار" لا يكون التعافي خياراً مطروحاً، على الأقل في الأمد القريب (اتفق على اعتباره بستة أشهر)، والأفراد في هذه المرحلة لا يكونون على وعي بضرورة التعافي ولا خطورة التمادي في السلوك المطلوب تغييره، وسلبيات التعافي تغلّب لديهم إيجابياته، فهم لا يرون سلوكهم مشكلة أصلاً، بل يرون أن اعتباره مشكلة هو نوع من المبالغة.
ويمكن رصد أربع صفات قد تجد واحدة منها أو أكثر لدى الأفراد في هذه المرحلة:
1- الشك أو التراخي وهنا لا يكون لديه العلم أو العزم لاعتبار التغيير.
2- المقاومة، وهنا يكون الباعث الأساسي لرفض التغيير الإباء عن أن يخبرهم الآخرون بما ينبغي عليهم فعله.
3- الاستسلام والشعور بالعجز، وهنا لا يرى الفرد أن التغيير أمر ممكن لكونه مغموراً تحت وطأة المشكلة، وبعضهم يكون قد بذل بعض المحاولات للخروج قبل أن يستسلم.
4- التبرير، حيث تجد لديه جواباً لكل شيء، فلديهم حجة لإقناع الغير بأن سلوكهم ليس مشكلةً، أو ليس مشكلةً بالنسبة لهم على الأقل.
ليس هناك دافع فطري للخروج من هذه المرحلة، وفي رأي بورشاسكا، فإن هناك حدثين يشترك المدمنون في كونهما مؤثرين في تحقيق الدافعية، وهما بلوغ الأربعين، حيث يميل الأفراد في هذا السن إلى إعادة التفكير في الحياة والمسار، والثاني هو حدث صادم يختبره المدمن كوفاة رفيق التعاطي نتيجة جرعة زائدة أو تضرر المدمن بسلوكه بشكل جلل، ما اصطلح على تسميته بـ"الوصول للقاع".
وهناك تقنيات متخصصة تم تطويرها لتحريك الأفراد من هذه المرحلة، لكن ماذا عنك كصديق لهذا الشخص؟، ما يمكنك فعله هنا هو"القبول "، و"الدعم"، بأن تكون مرفأ يمكنه الاستناد والرجوع إليه إذا لامسه الأمل في التغيير، ثم القيام بما يمكن تسميته بالمواجهة الدافئة أو المواجهة بنكهة المواجدة (Empathic confrontation) وهي مواجهة لا يشعر فيها الآخر بالتهديد نتيجة وصول نية الفوقية أو السلطة أو الهجوم أو الانتقاص، بل الدعم والفهم والمشاركة.
المرحلة التالية هي مرحلة "التفكير" أو "التردد"، وفيها يميل الفرد إلى اتخاذ قرار في المستقبل القريب، وهو متردد لكونه أكثر وعياً بمميزات التغيير لكنه يعي الثمن أيضاً، بل على العكس كلما اشتد تفكيره في التعافي اشتد تعلّقه وشعوره بارتباطه بالسلوك الذي عليه التوقف عنه، وقد تطول إقامة الفرد في هذه المرحلة لوقوعه في شرك ثنائية Ambivalence الحب والكره.
وهنا تكون قيمة مقابلات الدافعية المتخصصة أعلى ما يكون من خلال الجدل المعرفي لترجيح كفة التغيير، والتي يمكن أن تقوم بها من خلال طرح التساؤلات المنطقية التي توضح ضرورة التعافي وإبراز خطورة الاستمرار في السلوك.
المرحلة الثالثة هي "الاستعداد"، وفيها يميل الفرد إلى اتخاذ قرار في المستقبل القائم (يتم اعتباره بشهر) وهنا تميل كفة التغيير إلى الرجحان فوق التمادي في السلوك، وفي الغالب يكون لديه خطة للتحرّك كالانضمام لمجموعة تعاف أو استشارة طبيب، أو ما شابه.
بعد ذلك تأتي مرحلة "التنفيذ"، وفيها يكون الفرد قد استعدل الكثير من نمط حياته في الستة أشهر الماضية وهو بصدد تنفيذ قرار محدد، ولكي يعتبر تغيير السلوك تنفيذاً لابد أن يكون ملحوظاً وقابلاً للقياس ومقبولاً كتغيير من مختص، فمثلاً في التدخين لابد من الامتناع الكامل لاعتبار التغيير تنفيذاً للتعافي.
ثم الاستدامة أو الاستمرارية، وهي مرحلة العمل على تدعيم قرار التنفيذ ومنع الانتكاسة، ويظل الفرد في مرحلة الاستدامة مدة من ستة أشهر وحتى خمس سنوات من التنفيذ، وخلالها لابد أن يتوخّى الفرد الانتكاسة ويظل على أهبة الاستعداد لاختبار مدى امتناعه.
وأهم أسباب الانتكاسة هنا هو اعتبار الفرد أنه يصل لمرحلة التعافي بعد مرور أسابيع أو عدة أشهر في الاستدامة، فيتراخى، وهنا تحدث الانتكاسة.
وعلى الفرد أن يدرك أن الاستدامة هي طريق طويل حتى تترسّخ قدمه في النمط الجديد من الحياة، ويعتبر الأفراد الجادون أن الأشياء والأماكن والأشخاص التي تربطهم بالسلوك هي محرمات طيلة فترة الاستدامة.
وخلال فترة الاستعداد والقرار، على الفرد توقع الانتكاسة والتأهب لطلب العون عند مروره بأربع حالات رئيسة تجمعها كلمة HALT وهي الجوع الشديد وتعني الاحتياجات البيولوچية غير المشبعة، أو الغضب الشديد، أو الوحدة الضاغطة، أو التوتر النفسي الشديد ومنه الاكتئاب والتأزم العاطفي.
وعلى المختص إمداد العميل بأدوات نفسية يلجأ إليها في تلك الحالات كالتدريب على المشاركة مع دائرة ثقة وتقنيات التأمل والتسامي الروحي بالدعاء والصلاة بمفهومها الروحي لا الطقسي، والتأكيد على دور الرياضة في نمط الحياة الجديد.
تأتي الخطوة الأخيرة وهي الإنهاء بالانتكاسة أو التعافي، ويرى الكثير من مختصّي العلاج السلوكي أن الفرد الجاد سيمر في الغالب بدائرة التغيير من خمس إلى سبع مرات قبل تحقيق التعافي طويل الأجل، بينما يعد التعافي هو المرحلة التي يكون ميل الفرد فيها إلى الانتكاس يقترب من الصفر، بغض النظر عن الحال التي يكون عليها أو الظروف التي يمر بها، والتي غالباً ما تأني بعد الاستقرار في الاستدامة مدة خمس سنوات.
وفي إحدى الدراسات بلغت نسبة الأفراد الذين بلغوا مرحلة التعافي بعد فترة من إدمان التدخين/الكحول قرابة 20%، ولذا ينصح بأن يعتبر الفرد نفسه دوماً داخل مرحلة الاستدامة، وقبول الانتكاسة كمرحلة تعاف، لأن كل انتكاسة تكشف نقطة ضعف يمكن العمل عليها لتقوية قرار التنفيذ.
ومن النادر جداً أن يرجع الفرد بعد كل انتكاسة إلى نفس النقطة التي انتقل عنها في البداية، بل على العكس فكل دائرة محاولة تبني داخله حجر تعافٍ غير قابل للهدم.!
د.شهاب الدين الهواري
اختصاصي الطب النفسي