انتصف الشهر، ونحن لم ننصف أنفسنا، وبعضنا لم ينصف القرآن! وهكذا الأيام تترى، والليالي تنقضي، وهي تعمل فينا بالنقص، وكثير منا يعمل في نفسه النقص أيضا، ولا يعمل في الأيام ليكمل!
شهر رمضان قد انتصف، فمن منكم حاسب فيه نفسه لله وانتصف؟ من منكم قام في هذا الشهر بحقه الذي عرف؟!
من منكم عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبني له غرفاً من فوقها غرف؟
ألا إن شهركم قد أخذ في النقص فزيدوا أنتم في العمل، فكأنكم به وقد انصرف، فكل شهر فعسى أن يكون منه خلف، وأما شهر رمضان فمن أين لكم منه خلف؟!
انتصف شهر رمضان ..وذهب نصف البضاعة في التفريط والإضاعة!
والتسويفُ يمحق ساعة بعد ساعة!
"والشمس والقمر بحسبان" "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ"
يا واقفا في مقام التحيّر! هل أنت على عزم التغير؟ إلى متى ترضى بالنزول في منزل الهوان؟.
ارفعوا رؤوسكم وانظروا البدر وقد اكتمل نوره وتذكروا قوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته".
قال العلامة ابن عثيمين: (العشر الأواسط أفضل من العشر الأول، والعشر الأواخر أفضل من العشر الأواسط، وتجدون هذا في الغالب مطرد وأن الأوقات الفاضلة آخرها أفضل من أولها، ويوم الجمعة عصره أفضل من أوله، ويوم عرفة عصره أفضل من أوله، والحكمة من هذا والله أعلم: أن النفوس إذا بدأت بالعمل كلّت وملّت فرُغِّبت بفضل آخر الأوقات على أولها حتى تنشط فتعمل العمل الصالح، بحسب ما جاء في "الهداف".
و يا أهل القرآن وحملته وقرأته.. كان مالك بن دينار يقول: يا حملة القرآن.. ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ فإن القرآن ربيع المؤمن، كما أن الغيث ربيع الأرض، فقد ينزل الغيث من السماء إلى الأرض فيصيب الحش -يعني مكان النجاسة- فتكون فيه الحبة فلا يمنعها نتن موضعها أن تهتز وتخضر ..
فيا حملة القرآن.. ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟
يقول أهل العلم: إن قيمة الاجتهاد في العمل والسعي إنما تظهر على الحقيقة في الختام، فالموفّقُ من وفّقه الله للإحسان في خاتمته كما وفّقه للإحسان في بدايته، ولذلكَ ثبتَ عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "والذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، ثم يسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ثم يسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها".
فانظُر كيف كتب للأول النار مع صفاء البداية، والسببُ الفشلُ والانتكاسُ في النهاية، وكتبَ للآخَرِ الجنَّةَ مع الانتكاسِ في البداية لصفاءِ النهاية وحصول التوفيق فيها. فاحرصُوا معشر المؤمنين على جمالِ نهاية رمضان كما حرصتم على جمالِ بدايته تغنموا وتسلمُوا !
فهذا رمضانُ - معشر المؤمنين - قد انتصف، فمن منَّا حاسب نفسه فيه وانتصف؟!
حقٌّ على كلّ عاقلٍ أن يسألَ نفسَه: ماذا قدّمَ هذا العامَ وما الذي أخّر؟!
مثّل لنفسِكَ يا عبد الله: ها قد مضَى النصفُ من رمضانِك .. أي: من حياتِكَ على التشبيه .. لم يبقَ إلاّ نصفٌ وترحل، أيّ زاد ستقابل به مولاك..؟ وأيّ هدية ستحملها يداك ..؟! اقرأ كتابك، كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا !
كيف وجدت حالكَ مع القرآن في تلك الأيّام؟ المُجِدُّونَ في الختمة الثانية والثالثة أو الرابعة؛ فماذا قدّمت لنفسِك؟!
كيف وجدت حالكَ مع الصّلوات؟! الفُطَنَاءُ لم تفُتهُم صلاةٌ ولا نوافلُها، فماذا قدّمت لنفسِك؟!
كيف وجدت حالكَ مع الإحسانِ والصّدقات؟! الفطناءُ أكثروا الإطعامَ والصّدقات، وباركُوا للمساكينِ الأعطيات، فماذا قدّمت لنفسِك؟!
كيف وجدت حالكَ مع التراويح؟! المُجِدُّون ما تركُوا ركعةً واحدة، وها قد زال تعبُ القيام، وذهبت راحة الغفلة ! فماذا قدّمت لنفسِك؟!
هكذا هو الحال - معشر المؤمنين - في الحياة الدنيا..!، تذهبُ الأحزانُ والأتعابُ كما تذهبُ الشهوات واللذّات سواءً بسواء، ولكن لا تبقى إلا الحسناتُ والسيّئات!، قال الله تعالى يصفُ حالَ المتّقين وقد حطُّوا رحالَهم في الجنّة: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوب) [فاطر 33-35].
وقال سبحانهُ يصفُ حالَ الغافلين وقد سيقَ بهم إلى النّار -نسأل الله السّلامة والعافية-: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِير) [فاطر: 37].
سبحان الله !! أوَ لم نعمّركم ما يتذكّرُ فيه من تذكّر؟!: هذا أربعين رمضان، وهذا خمسين، وهذا ستّين وهذا سبعين .. أو لا تكفي تلك الفُسحةُ من الأيّامُ والليالي والشهورِ والسّنين، أَوَ لَا يكفي الشيبُ بعد الشباب ليعلمَ العبدُ أنّ الحياةَ لهوٌ ولعب وأنّ ما عندَ الله خيرٌ للعباد؟!.
مادامَ في العمر بقيّة، وفي القلب عزمٌ صادِقٌ ونيّة؛ فلا يزالُ العبدُ في متّسَعٍ من الأمر. ما بقيَ من رمضان هو أفضلُ الشهرِ باتّفاق، ففيهِ العشرُ الأواخرُ وِعَاءٌ يحملُ عروسًا للمتّقين الراغبينِ في الوصل، إنّها ليلةُ القدرِ وما أدراكَ ما ليلةُ القدر؛ ليلةٌ كريمةٌ مباركة تتنزّلُ الملائكةُ والروحُ فيها، فضّل الله العبادةَ فيها على عبادةِ ثلاثٍ وثمانين سنة؛ فيها تُعتقُ الرّقاب، وتُنالُ الرّحمات، ويعفُو اللهُ عن العباد!
وقد ذكر لنا أزواجه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان كثير الاجتهاد في هذا الشهر العظيم، وأشد ما يكون اجتهاده إذا كاد هذا الشهر ينصرم يريدُ الخروج؛ عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها" (صحيح سنن ابن ماجه: 1767، والصحيحة: 2123).
فإنَّ العبد قد يُدرِكُ من نفحات آخر الشَّهر ما فاتَهُ في الأَوَّل من جِدٍّ واجتهاد، وقالت -رضي الله عنها-: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر أحيا الليل، وشد المئزر، وأيقظ أهله"(صحيح سنن ابن ماجه: 1768)، أي: أنَّ البيتَ كلَّهُ حيٌّ في الليل والنَّهارِ بذكر الله تعالى ..
فيا عبدَ اللهِ،. هيئ نفسَك للعشرِ هيّا!: اجعل ساعةً في صلاةٍ .. وساعةً في تلاوةِ القرآنِ .. وساعةً في الدعاءِ .. وساعةً في الذكرِ .. وساعةً في الصدقةَِ والإحسانِ .. وساعةً في البرِ والصلةِ .. وسوفَ تَمُرُّ الساعاتُ سريعاً .. ويُكتبُ الأجرُ عظيماً .. ويُوشكُ هلالُ شوالٍ أن يظهرَ .. ويذهبَ النصبُ والسهرُ .. ويبقى بإذنِ اللهِ تعالى العملُ والأجر .. !
اقرأ أيضا:
خمس بركات في السحور تعرف عليهااقرأ أيضا:
معين فضائل لا ينضب للعفو عند المقدرة .. خلق نبوي أصيل أقبل عليه في رمضان لتكون من العتقاء من النار