نحن نخزن نسخًا حية (صوت وصورة) من الآخرين المهمين في حياتنا، سواء مَن نحبهم أو من نكرههم، داخل عقولنا ونفوسنا، نخزن نسخًا من الآخرين الذين نحبهم حتى نستطيع استحضارهم في غيابهم، والاستنئاس بهم وقت الحاجة إليهم، ونخزن نسخًا ممن نكرههم، حتى نفعل بهم (داخلنا) ما لا نستطيع فعله معهم وجهًا لوجه.
هذه هي أحد أهم مبادئ نظرية نفسية شهيرة اسمها (العلاقة بالموضوع/بالآخر)، لمؤسستها المحللة النفسية العبقرية ميلانى كلاين، وهذه المقدمة هامة جداً لفهم ما هو قادم.
يفسر بعض رواد هذه النظرية النهم الزائد للأكل بأنه طريقة بائسة أخيرة لإشباع احتياج نفسي عميق لوجود أناس نحبهم (داخلنا)، لكن ذلك غير متاح فى صورة آدمية، فلنملأ أنفسنا إذًا بالمتاح والموجود، على شكل نوبات متكررة ومستمرة من الأكل والبلع والتخزين، ويسمى هذا فى الطب النفسي (نهم الأكل) Binge Eating. بالطبع هناك تفسيرات نفسية أخرى للنهم الزائد للأكل، مثل التعبير عن الغضب أو الإحباط، وأحيانًا السعادة.
هناك آخرون، بعد انتهائهم من الأكل والشبع، يتعمّدون القيء، وإرجاع ما أكلوه مرة أخرى، ومن نفس وجهة النظر، يكون القيء هنا هو الوسيلة الرمزية الوحيدة المتاحة لطرد أى شيء وأى أحد قد قمنا بتخزينه داخلنا، وتسبب لنا فى أذى نفسي أو معنوي، لكنني لا أستطيع أن أمد يدي وأخرج شخصًا بعينه من عالمي النفسي الداخلي، فاستبدل ذلك بإرجاع الأكل من معدتي، لأنه هو ما أستطيع فعله، ويسمى ذلك فى الطب النفسي (الشره المرضى) Bulimia Nervosa.
ومن نفس المنظور، فإن العزوف عن الأكل، وفقدان الشهية، قد يكون أحيانًا إعلانًا قاسيًا عن رفض إدخال أي آخر في عالمي الداخلي، حتى لو كان هذا الآخر مجرد (لقمة)، وذلك بسبب الأذى والتشويه والضرر الذي سببه لي بعض الناس ممن فتحت لهم حدود نفسي، وائتمنتهم عليها، وأسكنتهم داخلها، فلا داعي لإدخال أي شيء/آخر جديد، ولا داعي للمخاطرة، والمثل يقول (اللي يتلسع من الشوربة ينفخ فى الزبادي)، وهذا مرض نفسي ثالث اسمه (فقدان الشهية العصبى) Anorexia Nervosa.
بالطبع هناك تفسيرات أخرى لكل هذه الأعراض، لكن هؤلاء هم أعمقهم وأقربهم بالنسبة لي.
كثير من الأمراض النفسية عبارة عن تشبيهات ورموز يفهمها من يجيد قراءتها.
كثير من الأعراض النفسية عبارة عن رسائل مشفرة موجهة للعالم الخارجي بهدف طلب المساعدة أو توصيل رسائل بعينها.
كثير من الصعوبات النفسية وراءها علاقات مضطربة (بآخرين).
آخرين أحببناهم.. وخذلونا..
آخرين سلمناهم أنفسنا.. وخانوا أمانتها..
آخرين استباحوا حرمة عالمنا الداخلي.. وعاثوا فيه فسادًا..
توخّوا الحرص في الرسائل النفسية التي تقومون بتوصيلها لأولادكم..
لا تدخلوا في علاقات حب، فقط من أجل التجربة والهزار واللعب بمشاعر بعضكم البعض..
لا تتزوجوا دون أن تشعروا أنكما طرفين متكافئين في الحقوق والواجبات، وليس سيد وعبد، أو غالب ومغلوب على أمره..
كل شيء يتم تخزينه داخلنا..
و(داخلنا) هذا، قد يتعب، وقد يمرض، وقد ينهار.
د. محمد طه
أستاذ الطب النفسي – جامعة المنيا
*بتصرف يسير
اقرأ أيضا:
زوجتي طفلة كلما غضبت خاصمتني وذهبت لبيت أهلها.. ماذا أفعل؟اقرأ أيضا:
صديقتي تريد الانتحار وأهلها رافضون ذهابها إلى طبيب نفسي .. كيف أنقذها؟