من أفضل ما يمثل فيه الصمت تاجا على رؤوس العقلاء، هو الوقت الذي يكثر فيه الجدال بين الناس، حينما يزعم كل واحد منهمه أنه رأس العلم وبحر المفهومية، فكثيرا ما نلاحظ في الوقت الحاضر كثرة الجدل بين الناس سواء كان في السياسة أو الحديث عن كرة القدم، أو بعض الأمور التافهة التي تحدث تخاصما بين المسلمين، رغبة في أن ينتصر كل واحد منهم لرأيه.
فقد قيل في المثل الشعبي، أن الله سبحانه وتعالى وزع على الناس عقولهم وأرزاقهم، فلم يعجبهم رزقهم مهما كثر من نعم الله، ولكنهم أعجبوا إعجابا شديدا بعقولهم لدرجة أن كل شخص عقله عنده يمثل عقل علماء الفيزياء والرياضيات.
وكان الصَّحابةُ رضِيَ اللهُ عَنهم يَحرِصون حِرصًا شَديدًا على النَّجاةِ في الدُّنيا والآخِرةِ؛ فكانوا يَسأَلون النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عن أسبابِ النَّجاةِ والفَلاحِ في الدُّنيا والآخِرَةِ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يُرشِدُهم ويَدُلُّهم إلى طريقِ الخيرِ والنَّجاةِ.
وفي هذا الحديثِ يقولُ عُقبةُ بنُ عامرٍ رضِيَ اللهُ عَنه: "قلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما النَّجاةُ؟"، أي: ما أسبابُ النَّجاةِ والفلاحِ في الدُّنيا والآخرةِ، وكيف أتَحصَّلُ عليهما وأَنْجو بنَفْسي؟ "قال"، أي: النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "أمسِكْ عليك لِسانَك"، أي: كُفَّ لِسانَك واحْبِسْه واحْفَظْه عن قولِ كلِّ شرٍّ، ولا تَنطِقْ إلَّا بخيرٍ.
وقد قال اللهُ تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]؛ وذلك لِما للِّسانِ مِن خُطورةٍ.
وفي صحيحِ البخاريِّ: "إنَّ العبدَ ليَتكلَّمُ بالكلمةِ مِن سَخطِ اللهِ لا يُلْقي لها بالًا يَهوي بِها في جهَنَّمَ"، وقد يَخرُجُ الإنسانُ مِن الدِّينِ بكَلمةٍ وهو لا يَدْري.
"وَلْيَسَعْك بيتُك"، أي: لِيَكُنْ في بيتِك سَعَتُك والْزَمْ بيتَك لِتَعبُدَ اللهَ في الخَلَواتِ، واشتَغِلْ بطاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، واعتَزِلْ في بَيتِك عن الفِتَنِ، وقيل في مَعْناه: ارْضَ بما قسَم اللهُ لك مِن الزَّوجةِ والولَدِ والرِّزقِ والسَّكنِ، وغَيرِ ذلك مِن مَتاعِ الدُّنيا، وانظُرْ إلى مَن هو أعلى مِنك في أمرِ الدِّينِ، وإلى مَن هو أدنى مِنك في أمرِ الدُّنيا؛ لئلَّا تَزدَرِيَ نعمةَ اللهِ عليك، فهذا أسلَمُ لك.
"وابْكِ على خَطيئتِك"، أي: واندَمْ على ما ارتكَبتَ مِن ذنوبٍ، وابكِ بكاءً حقيقيًّا؛ تصديقًا لتوبتِك وإنابتِك، ثمَّ اشتَغِلْ بإصلاحِ نفسِك وتَهذيبِها.
وهناك أحاديث تتحدث عن الصمت والسكوت، وفضل ذلك الصمت، لكن الأحاديث معنية بالصمت عن الباطل، واللغو الغير مفيد، والصمت عن قول ما يضل الناس أو يجلب سيئات، أو ما كان في النميمة أو السب، أو الغيبة، أو قول الباطل، أو الزور.
اقتصار الفضل على السكوت عن الزور، واللغو فقط، يأتي منها فوائد الصمت، وهو من الناحية النفسية والطبية قد يكون أمر مفيد بعض الشئ، ويمكن استعراض فوائد السكوت أو الصمت فيما يلي:
راحة للمخ والدماغ من إرهاق التفكير والتحليل والكلام.
استرخاء من عناء الكلام المستمر.
الهدوء والراحة للعقل، والنفس.
التخلص من القلق، والتوتر، والكبت.
التخلص من الضغوط الاجتماعية والنفسية.
وكانت العلامة أنه كلما كان يحاول الكلام مع الناس ينعقد لسانه ولا يستطيع الكلام، أما التسبيح والذكر فينطلق فيها لسانه دون مشكلة، ويكتفي مع الناس بالرمز والإشارات، وأن لا يتكلم ولا ينطق سوى بتحريك الشفايف دون صوت ودون أن يكون بسبب مرض أو عاهة أصابته، ولا يمكن لسانه عن الذكر، والتسبيح، ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ)، سورة أل عمران.
ولأن القصة ليست عبادة، وإنما حدث اختص به واحد من أنبياء الله، لظروف واضحة، فلا علاقة لها بالعبادة، ولا طلب الرزق من الله، أو الذرية، ولا يجوز اتخاذها طريقة للرزق بالولد، وذلك لأن الإسلام علم أتباعه كيف يتقربون لله، بما شرعه الله لهم، ومن ذلك، الدعاء لله، وإخراج الصدقات، والحفاظ على السنن والنوافل، وتأدية الفرائض على وقتها كما أمر الله، ودلنا النبي صلى الله عليه وسلم.
فالصمت يكون جميلا حينما يكون مانعا للخوض في أعراض الناس وعوراتهم، ونشر الفتن وكثرة الجدال وجلب الخصام بين المسلمين.