من منا يرغب في اختبار الشعور بالألم؟ ومن يرغب في اختبار الهجر أو الرفض؟ ماذا عن شعور الخزي؟ كلها مشاعر غير محتملة خاصةً كلما كان جهازنا النفسي أشد هشاشة، ولذا فعندما نجد أنفسنا أمام عقبة ما، سرعان ما تنشط داخلنا غريزة البقاء، وتُطوّر مجموعة من الحيل النفسية بهدف خفض تأثير هذه المشاعر، أو الوقاية من تكرارها، وهذه الحيل هي ما يسمى بالدفاعات النفسية.
وتنشأ دفاعاتنا النفسيّة في مرحلة مبكرة من العمر، ويكون الهدف المحوري لها هو حماية الـ"أنا" من تهديد عارض، ويمكن تقسيمها إلى عدة درجات:
1- الدفاعات الأولية
وتتميز ببدائية الدفاع وضعف بنيان الأنا إلى الحد الذي يختلط فيه الأنا بالآخر، ومن أشهر الدفاعات الأولية:
- الإنكار، لا توجد مشكلة؛ فسلوكياتي لا تحتاج إلى تقويم ولكن الآخرين تدفعهم الغيرة إلى توجيه النقد لي.
- الإسقاط، وهو نسبة مشاعري للآخر، فأنا أشعر بالذنب لكن لأحمي نفسي ضد هذا الشعور أشعر أن الآخرين مذنبين بصورة أعمق.
- الإزاحة، أهان كريم زوجته، وبعد دقائق لعب الابن بصوت مرتفع فقامت الزوجة بضربه؛ فهنا قامت بإزاحة الغضب ضد أمير ووجهته للابن.
- دفاع الحدية، أنا لا أحتمل التناقض الشعوري، لا أستطيع تحمل أن يكون في الآخر خير وشر في نفس الوقت، فالآخر إما ملاك أو شيطان، ويكون تجنبنا لجانب السوء في الحقيقة لأننا قمنا بتضخيمه فمن الأفضل تجاهله.
2- الدفاعات الثانوية
وتشمل الدفاعات النرجسية والعصبية والناضجة، وهي أكثر نضجاً من الدفاعات الأولية، بمعنى أننا نحتفظ فيها بذواتنا فلا تختلط بالآخر، لكنها أيضاً تعزلنا عن الواقع، ومنها على سبيل المثال:
- التكوين العكسي، فالشخص الذي لا يصبر عن الشهوة يقوم بتمويل حملة لمقاومة الإباحية، فهذا الدفاع يخفف من وطأة الشعور بالخزي.
- دفاع التحويل أو الاستبدال، فبدلاً من تمويل حملة لمقاومة الإباحية سيعمل في مقص الرقابة، وهنا لن يسبب إشباع السلوك شعورًا بالخزي لأننا حملناه بمعنى إيجابي، أو حولناه لصورة مقبولة فنحن الآن نحمي المجتمع من الإباحية، أو هكذا أقنعنا أنفسنا.
وقد يستمر الأنا في بناء الدفاعات، ووضع الأسوار حتى تتكون ما يعرف بالذات المزيفة، أنا كاملة لكنها ليست أنا حقيقية وإنما مبنية من عشرات الدفاعات، بالونة تتحول من حماية للأنا إلى محبس لها، فتمنعها من التواصل.
ففي كل أنواع الدفاعات نجد هناك محاولة حماية للأنا؛ فهي مدفوعة بغريزة البقاء، محاولة للهرب من اختبار أن تكون مُعرّضاً للإصابة، وهذا التوجه جيد في مراحل العمر الأولى لكنه يمنع الأنا من النمو والنضج، فلا شيء يساعد على الحياة مثل الانفتاح والتعرّض، فالنبتة التي تحتفظ بها داخل القفص الزجاجي لن يصيبها أذى خارجي، لكنها ستظل متقزمة وذابلة.
كما إن معايشتنا الحياة من خلف الدفاعات يحرمنا من الحياة، ولا يعني ذلك أن دفاعاتنا أساءت إلينا، لكنها لعبت دورًا اقتضته الضرورة، لكن النضج يعني شيئاً آخر، يعني أن نتخلى عن الذات المزيفة لأنها عشبة ضارة تتغذى في كل يوم على ذاتنا الحقيقية.
والآن.. كيف نخرج من هذه الحفرة؟
كما تعودنا سويّاً، فالخطوة الأولى هي الاعتراف بوجود مشكلة، وبذلك نهدم أول الدفاعات وأخطرها وهو الإنكار، بعد ذلك ينبغي أن نتخذ قراراً بأن نكون حقيقيين، فهناك فرق بين الخزي وبين الحرج الصحّي الذي يسببه كشف ضعفنا وعيوبنا بشرط أن يكون هذا الكشف في بيئة صحية من رفقة ناضجة وواعية.
وهناك فرق بين الشعور الصحّي بالذنب عند تخطي حدودنا وبين عقدة الذنب المزمنة، والآن قم بالبحث عن أنواع الحيل الدفاعية وصورها في الواقع، في ورقة خارجية اكتب أي الدفاعات قمت باستعمالها في حياتك؟ وضع خطّة بديلة وحقيقية للتعامل مع الآخرين.
لكي تخرج الأنا للحياة تحتاج علاقة تشجعها على خفض الدفاعات، علاقة قبول ومحبة غير مشروطة، مجتمع يمكن تشبيهه بالفقاعة الصحية التي نتنفس داخلها هواءً جديداً يساعدنا على البقاء في المجتمع الكبير.
والذات المزيفة يسميها يونج بالقناع، ويسميها التراث الديني بالنفاق، وكلها اتفاقات على أنها شيء قشري وغير صادق.
لذلك أرجوك أن تمتن لدفاعاتك في نفس الوقت الذي تكره الزيف الذي صاحبها، أن تحيا حقيقياً مهما كلفك ذلك من ثمن.
د. شهاب الدين الهواري
اختصاصي الطب النفسي
*بتصرف يسير