عندما يتعرض الإنسان للوجع أو الألم، تجده ينطق بدون تفكير: "أخ"، وكأنه يستنجد بأخيه حتى يخفف عنه من وقع الألم الذي يتعرض له، إذ ليس هناك أقرب للإنسان من أخيه، ويبدو ذلك جليًا في المواقف الصعبة، التي تشتد فيها حاجة الإنسان إلى من يخفف عنه بالكلمة، ويدعمه بالرأي.
وفي قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا"، قرن الأمر بتقواه بالأمر ببر الأرحام والنهي عن قطيعتها؛ خصوصًا الأقربين منهم؛ ومن هؤلاء الإخوة.
وقد تعرض القرآن الكريم لعلاقات الإخوة في أكثر من موضع، فقدم نموذج نبي الله موسى وأخاه هارون، للتأكيد على ضرورة التعاضد بين الإخوة، ومؤازرة بعضهم البعض، كما ساق قصة نبي الله يوسف مع إخوته الذين كادوا له حقدًا عليه، ليأمرنا بجميل الصفح والعفو عمن يسيء إلينا، خاصة لو كان من أولي القربى.
موسى وهارون
فقد اختار موسى عليه السلام، أخاه هارون، وزيرًا دون غيره من الناس؛ يقول القرآن حكاية عنه: "وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرً".
كان هارون أكبر من موسى بأربع سنين، وولد في العام الذي كان فرعون لا يقتل فيه، كان أفصح منه لسانًا وأجمل وأوسم، وأبيض اللون، وكان موسى آدم أقنى جعدًا.
يقول المفسرون: "وخصَّ هارون لفرط ثِقته به، ولأنه كان فصيح اللسان مِقْوالاً، فكونه من أهله مظنَّة النصح له، وكونه أخاه أقوى في المناصحة، وكونه الأخ الخاص لأنه معلوم عنده بأصالة الرأي.
فلما قال موسى ما قال جاء الجواب الرباني والرحمة الإلهية، قال الله جل وعلا: "قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى"، لهذا يقال أعظم منة أخ على أخيه، موسى على هارون إذ أرسل من أجله.
وهارون نبي ورسول، كما قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: "فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ"، وقوله: "إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ", أي كل منا أرسل إليك، وهكذا قال جميع المفسرين.
وذكر هارون في القرآن الكريم، أكثر من عشرين مرة، أحيانًا على أنه كان وزيرًا لموسى: "وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا..."، "وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي"، وأحيانًا على أنه المتحدث نيابة عنه: "وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ".
وقوله تعالى: "وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا"، وهذا بيان لمظهر من مظاهر فضله الله على موسى، وهب له من رحمته وعطفه عليه أخاه هارون ليكون عونًا له في أداء رسالته.
والأصل أن الله نبأ موسى وبعثه، ثم إنه سأل الله أن يجعل من أخيه هارون نبيًا فاستجاب دعاءه ولهذا نعت الله جل وعلا موسى بقوله: "وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا" فبعثهما الله جل وعلا إلى فرعون "اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ"، وقال جل وعلا: "فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ"، وموسى كان هو الأصل المخاطب به النبوة وهو أشد سكينة وحزمًا من أخيه وأعلم وأفضل، لأن الله فضل النبيين بعضهم على بعض، وموسى من أولي العزم من الرسل وكان هارون محببًا في قومه بني إسرائيل، وقد جاء في رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسراء والمعراج: "فوجدت رجلاً تكاد تلامس لحيته سرته، قلت من هذا يا جبريل، قال، هذا المحبب في قومه هارون بن عمران".
وعندما وعد الله نبيه موسى ثلاثين ليلة، خرج من بني إسرائيل جعل أخاه هارون عليهم "اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي" وخرج إلى الميقات عند جبل الطور "وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ"، في الوادي المقدس "إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى"، وكان أول الأمر ثلاثين يوما ثم ما لبث أن أضحى أربعين بعد أن زاده الله عشرًا.
اقرأ أيضا:
كيف نستقبل شهر شعبان؟.. تعرف على أفضل الوسائلإخوة يوسف
النموذج المقابل لذلك، هو قصة يوسف بإخوته الذين ألقوه في البئر، وكادوا يقتلونه، لولا أنهم انتهوا في أمره إلى أن يبيعوه عبدًا لقافلة بثمن بخس، مع ذلك ضرب أعظم مثال في الصفح والعفو عنهم.
فلما رآهم قدموا إلى مصر بعد أن مكن الله له في الأرض، من أجل الحصول على المؤونة بعد أن ضرب الجفاف أرض فلسطين حيث يقيمون "وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ"، لم يتذكر لهم إساءته من قبل بل أكرمهم وضايفهم بالشكل الذي يليق به، إذ استقبلهم, وأكرمهم وزودهم بما يريدون من مؤونة وافرة.
ولما قدموا بشقيقه "بنيامين" في المرة التالية، أكرم الله تعالى يوسف بلقائه شقيقه الأصغر، رحمة ولطفًا من الله تعالى به,
فلما أراد أن يبقيه معه حتى يجمعه الشمل بوالده، وضع الحراس في رحله ما يجعله يبقي عليه كدليل على "سرقته"، فلما واجههم بذلك، "قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ * فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ * قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ"، كتم غيظه عن إخوته حتى بعدما أعادوا الإساءة إليه باتهامه بالسرقة من قبل, دون أن يبدي لهم ذلك.
وحين عرف يوسف، إخوته بنفسه وأظهروا الندم, كان سباقًا للعفو بعد أن قدر على مجازات السيئة بالسيئة، فاختار الدفع بالتي هي أحسن، فما زاد عن أن ذكرهم بما من الله عليه به من النعم، ووعظهم بأن هذا جزاء من يتقي الله تعالى ويصبر على بلائه واختباره وبلائه تعالى لمن يحب، وأنه تعالى لا يضيع أجر المحسنين، فعفا عنهم: "قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ * يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ * وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" عفا عنهم وزاد واستغفر له أرحم الراحمين.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إكرامه لأخته من الرضاع: الشيماء، فذكر أنها لما انتهت إلى رسول الله صلى الله عليْه وسلم - قالت: يا رسول الله، إني لأختُك من الرَّضاعة، قال: "وما علامة ذلك؟"، قالت: عضَّة عضضتَها في ظهري وأنا متورِّكتُك، فعرَف رسول الله صلى الله عليْه وسلم العلامة، فبسط لها رداءَه، ثم قال لها: "ههُنا"، فأجلسها عليْه، ودمعت عيناه، وخيَّرها فقال: "إن أحببتِ فأقيمي عندي محبَّبة مكرمة، وإن أحببت أن ترْجعي إلى قومك أوْصلتك"، فقالت: بل أرجِع، فأسلمتْ وأعْطاها النبي نعمًا وشاءً وثلاثةَ أعبُد وجارية.