من علامات النفاق أن يكون المرء في قمة الشهامة والنبل مع الغريب، ولكنه حينما يتعامه مع أهله فقد يكون في قمة النذالة والبخل بل والشح أيضا، ففي بعض المواقف تجده سباقا للخير حال كان هذا المعروف مع امرأة جميلة، أو رجل له منصب، بل أنه يكون في قمة سعادته وهو يخدم هؤلاء، أو يتفوه ناحيتهم بكلمة رقيقة، في حين تجده غليظ المشاعر حال طلب منه أحد فقراء أهله أن يسدي إليه معروفا ولو بالكلمة أو بالنصيحة.
وبالتحليل في شخصية هذه النوعية من البشر، قد تجد نوعا من الحيرة حال اقتربت منه، فقد تجده في قمة النبل مع الغريب وفي قمة الشح مع الأهل، فتتساءل وقتها : " هل أنت شهم فعلا أم أنك منافقا؟".
الإجابة بالطبع ستكون في التحليل الحقيقي لهذا الشخص أنه شخص منافق ليس إلا، ولا يعرف أي علامة من علامات الشهامة مهما بدا منه ناحية الغرباء، لأن شهامته هنا ربما تكون مقرونة بشهوته في التقرب من هذه المرأة الجميلة التي يسعى لخدمتها من أجل نيل رضاها وحبها، أو الحصول على رضا رئيسه في العمل من أجل الاستفادة من منصبه.
خيركم خيركم لأهله
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ، قَالَ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي» رواه الترمذي.
في هذا الحديث يبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقياسًا من مقاييس الْـخَيْرِيَّة، وهو أن من علامات التقدم وإحراز قَصَبَ السَّبْق في الْـخَيْرِيَّة أن يكون الرجل خيِّرًا مع أهله.
والأهل هنا لها محملان:
- المحمل الأول: عموم الأقارب؛ فيؤول الأمر إلى فضيلة صلة الأرحام والحث عليها.
- المحمل الثاني: خصوص الأسرة؛ الْمُكَوَّن من الزوجة والعيال.
ومن خلال كلام شُرَّاحِ الحديث يتبين أن المعنى الثاني هو الأقرب.
ويذكر هؤلاء كيف كانت عشرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للنساء، فقد كان عليه الصلاة والسلام أحسن الناس عشرة لهنَّ، ويذكرون فعاله مع السيدة عائشة رضي الله عنها نموذجًا لحُسنِ العشرة والمعاملة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرسل بنات الأنصار لعائشة رضي الله عنها يلعبن معها، وكانت إذا وهبت شيئًا تابعها عليه، وإذا شربت شرب من موضع فمها، وأراها الحبشة وهم يلعبون في المسجد وهي متكِئَة على منكبه، وسابقها في السفر مرتين فسبقها وسبقته، ثم قال هذه بتلك، وتدافعا في خروجهما من المنزل مرَّةً.
أما مع عموم نسائه فقد كُنَّ يراجِعْنَه الحديثَ، وتهجره الواحدة منهنَّ يومًا إلى الليل، وجرى بينه وبين عائشة رضي الله عنها كلام حتى أدخل بينهما أبا بكر رضي الله عنه حَكَمًا -كما في خبر الطبراني-.
وفي القرآن الكريم ورد الأمر بحسن معاشرة النساء؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 19].
قال عمر رضى الله عنه: "ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي؛ فإذا التمسوا ما عنده وجدوه رجلًا".
وكان ابن عباس رضى الله عنه يقول: "إِنِّي لأتزين لامرأتي كما تتزين لي".
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ» رواه مسلم.
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إلَّا أُجِرْت عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِك -أَيْ: فِي فَمِهَا-» متفق عليه.
فلا يوجد في دين من الأديان ولا ملة من الملل ولا مذهب من المذاهب أن يصبح ما ينفقه الإنسان على أهله وزوجه هو الكمال الأتم والمقصد الأهم فيما يتعلق بالنفقات؛ فلقد تَفَوَّق هذا الإنفاق على عموم الإنفاق في سبيل الله، إما باعتباره أعلى درجات الإنفاق في سبيل الله أو باعتباره إنفاقًا مقطوعًا في كونه في سبيل الله؛ فقد يرد الخلاف في إنفاق مال هل هو في سبيل الله أم لا؟ ولكن لا يختلف أحد في أن الإنفاق على الأهل والزوجة والأولاد هو إنفاق في سبيل الله.
اقرأ أيضا:
عبد الله مخلصا 500عام وقذف في النار .. هذا هو السبب .. اللهم ادخلنا الجنة بفضلك وليس بعدلكالأقربون أولى بالمعروف
ولقد عمم الإسلام هذا المنحى فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية عندما وضع تلك القاعدة الكلية "الأقربون أولى بالمعروف"، والتي هي مُؤَيَّدَة بالقرآن والسنة والإجماع.
أما في القرآن: فقوله تعالى: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: 215]، وقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 180].
وأما في السنة: فالأحاديث التي بين أيدينا، وأحاديث أخرى مثل ما جاء من قوله صلى الله عَلَيْهِ وآله وَسلم لأبي طَلْحَة حِين تصدق ببئره -بِيْرُ حَاءَ- الْقَرِيب من مَسْجده صلى الله عَلَيْهِ وآله وَسلم، واستشاره فِيمَن يَجْعَلهَا فَقَالَ: « وَأَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ» رَوَاهُ البُخَارِيّ، ومثل ما رواه أصحاب السنن عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الْقَرَابَةِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ».
وما رواه مسلم عَنْ جَابِرٍ، في وصية رجل مِنْ بَنِي عُذْرَةَ أعتق عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا» يَقُولُ: فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ.
ولقد أجمع الفقهاء على أن النفقة والصدقة تكون على الأقرب فالأقرب، ولهم في ذلك ترتيبات بحسب درجة القرابة، مذكورة بتفاصيلها في كتب الفقه.