يغفل الكثير من الناس نعم الله عليه، ويعيش سجينا داخل مظلوميته التي أنشأها وشيدها بيديه، ليصنع بها بكائياته، في الوقت الذي لا ينظر فيه هذا المتنعم بنعم الله إلى المبتلين من عباد الله بالإعاقة التي تجعل منهم بشرا عاجزين لا حرج عليهم بنص القرآن في أن يجلسوا دون فعل شيء وقد كفل لهم القرآن من يقوم على رعايتهم، ومع ذلك رفضوا أن يكونوا عالة على غيرهم، واكتشفوا قوتهم الحقيقية ليحققوا بها إنجازاتهم، ليثبتوا لغيرهم أن النقص نقل العقل والدين ليس عقل الجسد.
من هو المعوق الحقيقي؟
يقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46]، وقال أيضًا: ﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [هود: 24].
وذكر الطبري في تفسير هذه الآية الكريمة: "هذا مثلٌ ضربَه الله للكافر والمؤمن؛ فأما الكافر، فصُمَّ عن الحق فلا يسمعه، وعَمِيَ عنه فلا يبصره، وأما المؤمن، فسمع الحق فانتَفع به، وأبصَره فوعاه، وحفظَه وعملَ به".
وقال عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].
هذه الآيات الكريمة تصف مَن لم يستعملْ حواسه وجوارحه مِن سمْعٍ وبصرٍ وقلوبٍ تَعقِل للوصول إلى الله تعالى والإيمان به، وَصفَهم بأنَّهم كالأنعام، بل هم أضلُّ؛ لأنَّ الأنعام تؤمن بالله عز وجل.
ويقول تعالى في سورة الكهف: ﴿ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ﴾ [الكهف: 100، 101].
وتعرِّف منظمة الصحة العالمية الإعاقة على أنها "قصور أو خَلل في القُدرات الجسميَّة أو الذهنيَّة، تَرْجِعُ إلى عواملَ وراثيَّةٍ أو بيئيَّة تُعيقُ الفردَ عن تعلُّم الأنشطة التي يقوم بها الفرد السليم المشابِه في السنِّ"، هذه الإعاقة قد تكون بسبب "خَلَلٍ جَسَدي أو عَصَبي أو عَقْلي للتركيب البنائي للجسم".
وأضافت المنظمَّة أنَّ هذا الخلل أو العجز يؤدي بالشخص إلى عدم تمكُّنه من أداء واجباته الأساسية معتمِدًا على ذاته، أو ممارسة عمله والاستمرار فيه بالمعدل الطبيعي، منبهة أن هناك أكثر من مليار نسمة في العالم يعانون من الإعاقة.
اقرأ أيضا:
من عجائب إكرام الضيف| أكل عنده الشافعي فأعتق الجارية فرحًاومع التعريف الذي وضعه القرآن ووضعته منظمة الصحة العالمية للإعاقة.. برأيك من هو المعوق الحقيقي؟.
هل المعوق هو الذي أنعم الله عليه بالصحة والمال والقوة الجسدية، وأنفق ماله وقوته في الإفساد في الأرض، أم أن المعوق الذي ابتلاه الله بوجود نقص في عضو في جسده، ومع ذلك أبهر العالم بقوته وبطولاته؟.
القرآن يجيب
وصف دقيق وعجيب للمعوق الحقيقي في القرآن، وصَف الله تعالى المُعرضين عن الحق الكافرين والجاحدين لأنعم الله بأنَّ أعينهم لا ترى الحق، وآذانَهم لا تسمع الحق أو حتى تستطيع السمع، أو "لا تعقل كلام الله عز وجل" كما ورد عن مجاهد رضي الله عنه، وفي هذا فَصَل القرآن الكريم ما بين القدرة على السماع والقدرة على الفهم.
والإعاقة في نظَر الإسلام هي وصف لمَن لم يستعمل حواسه وجوارحه في الوصول إلى الله تعالى والإيمان به، وليس من ابتُلي بإعاقة عقلية أو سمعية أو بصرية.
فالإسلام ينظر إلى الإعاقة على أنها ابتلاء وامتحان من الله تعالى؛ ليُمحِّص الله تعالى المؤمنين الثابتين الصابرين على تلك البلية؛ ففي إيمان العبد لا بد أن يكون هناك ثقة تامة أن ما أصابه لم يكن لِيخطئَه، وأن ما أخطأه لم يكن لِيصيبَه، وأن كل شيء مكتوب في علم الغيب عند الله، وأن الله تعالى ما شاء فَعَل، وأنَّ بيده تصاريف الأمور كلها.
هذا الإيمان يقضي بالتصديق بأنَّ ما أصاب العبد هو أمر مكتوب، ربما كان فيه الخير ولو أن فيه عُسرًا ومشقةً؛ قال تعالى: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]، وقال عز وجل: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216]، وهنا التفاتةٌ إلى أنَّ الله تعالى خَتَم الآية بقوله: إنَّ العلم محصورٌ عنده وإننا - نحن البشر - قاصرون عن فهم الصورة الكاملة لواقع أمور قد يبدو ظاهرها أن فيها السوء.
المسلم الحقيقي هو من ينظر إلى الإعاقة على أنها دفع للضرر، أو كفارة للذنوب، أو رفع للدرجات، أو تقرُّب إلى الله تعالى، وأنَّ هناك منحة في المحنة مِن الله تعالى، كما ورد عن رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام: ((إنَّ عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإنَّ الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم))، وقال أيضًا: ((أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل؛ يُبتلَى الرجل على حسب دينه، إن كان دينه صلبًا اشتَد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتُلي على قدر دينه، فما يبرح البلاءُ بالعبد حتى يتركَه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة))، ووَرد عنه أيضًا صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ العبد إذا سبقت له من الله منزلةٌ لم يَبلغْها بعمله، ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبَّره على ذلك، حتى يُبلِّغه المنزلة التي سَبَقت له مِن الله تعالى)).
اقرأ أيضا:
ما هو الفرق بين البيت العتيق والبيت المعمور؟ ومكان كل منهما؟