"بيننا وبينهم الجنائز".. هذه مقولة مروية عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، رواها عنه الدارقطني بسند صحيح؛ حيث قال: " سمعتُ أبا عليٍّ الصَّوَّافَ يقولُ: سمعتُ عبدَاللهِ بنَ أحمدَ بن حنبل، يقولُ: سمعتُ أبي رحمه اللهُ، يقولُ: " قولوا لأهلِ البدعِ: بيننا وبينكم يومُ الجنائزِ". وسمعتُ أبا سهلِ بنَ زيادٍ يَذكرُ ذلك ".
وقد صدق رحمه الله تعالى، أو صدقت فراسته ؛ فقد اتفق أهل التاريخ على أن جنازة الإمام أحمد رحمه الله تعالى حضرها عدد هائل من البشر، حتى نص بعضهم أن عددهم جاوز المليون، وأما من سعى في نشر البدع في عصره فقد هجر الناس جنائزهم.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وقد صدق الله قوله في هذا، فإنه رحمه الله كان إمام السنة في زمانه، وعيون مخالفيه أحمد بن أبي دؤاد القاضي لم يحتفل أحد بموته، ولا شيعه أحد من الناس إلا القليل .
وكذلك الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه وتنقيره ومحاسبته نفسه في خطراته وحركاته : لم يصل عليه إلا ثلاثة أو أربعة من الناس، فلله الأمر من قبل ومن بعد " ، من "البداية والنهاية" (14 / 425 - 426).
ثانيا:
الذي يظهر أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى؛ لا يقصد كل جنائز أهل السنة وأهل البدعة، فشهود الجنائز له أسباب حسية مشهودة، كمدى شهرة المتوفى ، وكثرة معارفه، ومدى تمكن الناس من حضور جنازته . وتفاوت أحوال الناس في أزمانهم ، وبلدانهم .
ولذا قد يشهد جنازة غير الصالح من المشاهير العدد الهائل من الناس .
وربما توفي الرجل الخامل من الصالحين، فلا يشهد جنازته إلا بعض أهل مسجده.
فالذي يظهر من لفظ الإمام أحمد ومن الأحوال والمحن التي مرّ بها أثناء دعوته للسنة، أن يكون المراد بها زمنا خاصا ، يكون مدار شهود الناس للجنائز : قدر الميت من العلم والدين ، لا أمر الشهرة ، ولا السلطان ، ولا نحو ذلك مما يزول بموت صاحبه ، فلا يبقى للناس عناية بجنازته ، ولا دافع لمجاملته ، أو مداراته .
أو يكون بعض من ابتلي بالمحن ، وصد الناس عنه في حياته ، من أهل السنة ، إذا مات : رغب الناس في شهود جنازته ، ولم يصدهم عن ذلك ما كان من ترهيب ، أو تنفير عنه ، كما وقع لشيخ الإسلام ابن تيمية ، مثلا ، وقد مات وهو في السجن .
فالظاهر أن الإمام أحمد قصد بذلك أهل زمانه ، حيث غلب على الناس الصلاح وحب الدين وحب العلماء العاملين ، ويظهر ذلك جليا في حرص الناس على شهود جنازتهم ، فلا تنطبق هذه المقولة على البلاد الذي غلب فيها الكفر والفسق والمجون .. ونحو ذلك .
فعن أَنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: ( مَرُّوا بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ. ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: وَجَبَتْ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا، فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا، فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ ) رواه البخاري .
والحاصل :أنه لا يظهر أن يكون المراد بهذه المقولة : عاما في كل الأزمان ، والأحوال .
وليست هي أيضا ، من نصوص الشرعي ، والوحي المعصوم ، الذي يخبر بالأمر العام ، فلا يخرج عنه ما يأتي في مستقبل الزمان ؛ بل الأقرب أنها مخصوصة بزمان معين ، أو حال مخصوص .
اقرأ أيضا:
هل يجوز عند السماع بوفاة مسلم قول: يا أيتها النفس المطمئنة...؟