للملوك عجائب وغرائب في سياسة الرعية، ومعاقبة المذنبين، ومن غرائب ما روته كتب الأدب وسياسة الملوك ما ذكروه عن أحد ملوك الفرس "كسرى أنوشروان وحيلته في قتل الخائن.
أصل القصة:
ارتكب رجل من خاص خدم كسرى أنوشروان جناية، فاطلع عليها ، والرجل غافل عنه.
وكانت عقوبة تلك الجناية توجب القتل في سياستهم؛ فلم يدر كيف يقتله: لا هو وجد أمراً ظاهراً يقتل بمثله الحكام فيسفك به دمه، ولا قدر على كشف ذنبه لما في ذلك من الوهن على الملك والمملكة، ولا وجد لنفسه عذراً في قتله غيلة، إذ لم يكن ذلك في طريقة دينهم ووراثة آبائهم.
اقرأ أيضا:
هل القلوب تصدأ .. وما الفرق بين "الران" و" الطبع" على القلب؟بداية الحيلة:
فدعا كسرى بالرجل بعد جنايته بسنةٍ، فاستخلاه وقال: قد حزبني أمر من أسرار ملك الروم، وبي حاجة إلى أن أعلمها، وما أجدني أسكن إلى أحدٍ سكوني إليك إذ حللت من قلبي المحل الذي أنت به. وقد رأيت أن أدفع إليك مالاً لتحمل إلى هناك تجارة وتدخل بلاد الروم فتقيم بها لتجارتك؛ فإذا بعت ما معك، حملت مما في بلادهم من تجارتهم وأقبلت إليّ، وفي خلال ذلك تصغي إلى أخبارهم، وتطلع طلع ما بنا حاجة إليه من أمورهم وأسرارهم.
فقال الرجل: أفعل أيها الملك، وأرجو أن أبلغ في ذلك محبة الملك ورضاه.
فأمر له بمالٍ، وتجهز الرجل، وخرج بتجارة؛ فأقام ببلاد الروم، حتى باع واشترى وفهم من كلامهم ولغتهم ما يعرف به مخاطبتهم وبعض أسرار ملكهم، ثم انصرف إلى أنوشروان بذلك، فاستبشر بقدومه، وزاد في بره، ورده إلى بلادهم، وأمره بطول المقام، والاعتناء بتجارته، ففعل، حتى عرف واستفاض ذكره.
ومضت على حالته هذه ست سنوات، حتى إذا كان في السنة السابعة، أمر الملك أن تصور صورة الرجل في جامٍ – كأس للشراب-من جاماته التي يشرب فيها، وتجعل صورته بإزاء صورة الملك، ويجعل مخاطباً للملك، ومشيراً إليه من بين أهل مملكته، ويدني رأسه من رأس الملك في الصورة كأنه يسرّ إليه بشيء.
ثم وهب ذلك الكأس أو الإناء لبعض خدمه، وقال له: إن الملوك ترغب في هذا الكأس، فإن أردت بيعه، فادفعه إلى فلان إذا خرج نحو بلاد الروم بتجارته، فإنه إن باعه من الملك نفسه نفعك، وإن لم يمكنه بيعه من الملك، باعه من وزيره أو من بعض خاصته.
فجاء غلام الملك بالجام ليلاً، وقد استعد الرجل للسفر، فسأله أن يبيع جامه من الملك، وأن يتخذ بذلك عنده يداً. وكان الملك يقدم ذلك الغلام، وكان من خاص غلمانه وصاحب شرابه. فأجابه إلى ذلك، وأمره بدفع الجام إلى صاحب خزانته، وقال: احفظه، فإذا صرت إلى باب الملك، فليكن فيما أعرضه عليه.
اقرأ أيضا:
"وكان أبوهما صالحًا".. قصة رؤيا عجيبة لوالد "الشيخ الحصري" قبل مولده.. كيف تحققت؟نهايته :
فلما صار إلى ملك الروم، دفع صاحب الخزانة إليه الكأس، فعزله فيما يعرض على الملك. فلما دفع كأس الشراب في يدي الملك، نظر إليه، ونظر إلى صورة أنوشروان فيه، وإلى صورة الرجل وتركيبه، عضواً عضواً.
فقال له ملك الروم: أخبرني، هل يصور مع الملك صورة رجل خسيس الأصل؟ قال: لا قال: فهل يصور في آنية الملك صورة لا أصل لها ولا علة؟ قال: لا قال: فهل في دار الملك اثنان يتشابهان في صورةٍ واحدةٍ حتى يكون هذا كأنه هذا في الصورة، وكلاهما نديما الملك؟ قال: لا أعرفه.
فقال: قم فقام، فتأمله قائماً، فوجد صورته قائماً في كأس الشراب. ثم قال: أدبر، فأدبر، فتأمل صورته في الجام مدبراً. ثم قال: أقبل، فأقبل، فتأمل صورته في الجام مقبلاً، فوجدها بحكاية واحدة، وتخطيط واحد.
فضحك الملك، ولم يجتريء الرجل أن يسأله عن سبب ضحكه، إجلالاً له وإعظاماً. فقال ملك الروم: الشاة أعقل من الإنسان، إذ كانت تأخذ بشفرتها فتدفنها، وأنت أهديت إلينا شفرتك بيدك.
ثم قال له ملك الروم: تغديت؟ قال: لا. قال: قربوا له طعاماً. فقال الرجل: أيها الملك أنا عبد ذليل، والعبد لا يأكل بحضرة الملك. فقال: أنت عبد ما كنت عند ملك الروم، متطلعاً على أموره متتبعاً لأسراره، بل أنت ملك ونديم ملك إذا قدمت بلاد فارس..أطعموه. فأطعم، وسقي الخمر حتى إذا سكر، قال: إن من سنن ملوكنا أن تقتل الجواسيس في أعلى موضع تقدر عليه، وأن لا تقتله جائعاً ولا عطشان.
فأمر أن يصعد به إلى صرحٍ كان يشرف منه على كل من في المدينة، إذا صعد، فضربت عنقه هناك، وألقيت جثته من ذلك الصرح، ونصب رأسه للناس.
اقرأ أيضا:
من عجائب الكرم.. ماذا فعلت فتاة مع ضيفها عندما أطال النظر إليها؟