لم يتصور الإنسان وهو يقرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم مع أحد أصحابه، بعد علمه أنه سب صاحبه بأمه، فأبلغه بأنه فيه جاهلية، ولم نتصور نحن هذه الدرجة التي يحصد فيها الإنسان الشر لمجرد عادة نعتبرها نحن مجرد مزحة في حياتنا وهو المزاح بسب الأم، فما بالنا ونحن نقرأ هذا الحديث عن جاهليتنا ونحن نسب كل يوم أعراضنا وأمهاتنا وآبائنا وكل من خلفونا.
فعن المعرور بن سويد قال : "رأيت أبا ذر رضي الله عنه وعليه بُردٌ وعلى غلامه بُرد، فقلت: لو أخذتَ هذا فلبسته كانت حلّة، وأعطيته ثوباً آخر، فقال: كان بيني وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية فنلت منها، فذكرني إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لي: ( أساببت فلاناً؟ ) ، قلت: نعم.. قال: ( أفنلت من أمه؟ ) ، قلت: نعم، قال: ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) ، قلت: على حين ساعتي هذه من كبر السن ؟، قال: ( نعم، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليُطعمه مما يأكل، وليُلبسه مما يلبس، ولا يكلّفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليُعِنْه عليه ) "متفق عليه واللفظ للبخاري .
وفي رواية مسلم : "فشكاني إلى النبى -صلى الله عليه وسلم- فلقيت النبى -صلى الله عليه وسلم- فقال: (يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية) ، قلت: يا رسول الله، من سبّ الرجال سبّوا أباه وأمه، قال: (يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية) ".
تفاصيل القصة
شيخٌ وقور كانت له قدم صدقٍ عند ربّه، وقد كان من أوائل الذين التحقوا بقوافل المؤمنين والرسالة المحمّدية، هو الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، وهو شريفٌ من أشراف قومه، والذي كان يرى في نفسه رابع أربعةٍ دخلوا الإسلام.
ومع شرف أبي ذر كان لأبي ذر رضي الله عنه عبدٌ مملوك، وحصل أن دار بينهما خلافٌ حول مسألةٍ ما، وتطوّر الخلاف إلى تلاسن بالقول وتراشقٍ بالألفاظ، فعيّر أبو ذر رضي الله عنه الرجل بأمّه الأعجمية فقال: "يا ابن السوداء"، فغضب العبد من هذه المقولة لما انطوت عليه من استنقاصٍ وتعريضٍ به، فانطلق إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يشكو إليه قول أبي ذر رضي الله عنه.
وعندما استمع النبي –صلى الله عليه وسلم- شكاية العبد تمعّر وجهه غضباً، وقال لأبي ذر رضي الله عنه: ( أساببت فلاناً؟، أفنلت من أمه؟) ، فاعتذر قائلاً: "يا رسول الله، من سبّ الرجال سبّوا أباه وأمه".
إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل عذره، ، فاعتذار كهذا لا يمكن القبول به في ميزان الشرع، بل هو ضربٌ من ضروب العصبيّات الجاهليّة التي جاء الإسلام لاجتثاثها، فقال له عليه الصلاة والسلام: (يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية) ".
فاستعظم أبو ذر رضي الله عنه أن يتبقّى فيه من رواسب الجاهليّة شيء، وهو الذي ظلّ يُفاخر الناس بإسلامه مبكّراً، واستاء أن يتسلّل إليه ذلك الخلق دون انتباهه، فقال رضي الله عنه: "على حين ساعتي هذه من كبر السن ؟"، فجاءه الجواب: (نعم).
ليضع النبي صلى الله عليه وسلم القاعدة المحمدية في التعامل مع الأهل والأصحاب والخلان والخدم : ( إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليُطعمه مما يأكل، وليُلبسه مما يلبس، ولا يكلّفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليُعِنْه عليه ) .
اظهار أخبار متعلقة
كم جاهلية نقدم عليها كل يوم؟
انظر لهذا الحد وصف النبي أبا ذر بالجاهلية، فما بالنا نحن بجاهليتنا التي نقدم عليها كل يوم، فمن صور الجاهليّة التي يقع فيها الناس بين الحين والآخر: التنقيص بالآباء والأمهات؛ وسب أم الرجل فيسب أمه، والمفاخرة الكاذبة والنظرة الدونيّة للآخرين التي تتنافى مع الإيمان.
قال سبحانه وتعالى: { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء} (النساء:1).
فالشرف في تقوى الله عز وجل والالتزام بالخلق النبوي، قال تعالى: { إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات:13).
فقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم أذيّة المسلم بالقول أوالفعل، والنهي عن التنابز بالألقاب كما جاء في الآية الكريمة، وبيان قرب النبي –صلى الله عليه وسلم- من جميع طبقات المجتمع، بحيث يستطيع الجميع أن يحادثه ويشتكي إليه ويُناجيه، وحرصه عليه الصلاة والسلام على وحدة الصفّ الإسلامي، ووضوح سرعة استجابة الصحابة للأوامر الشرعيّة.