لم يتعرض القرآن الكريم لخلق سيئ بمثل ما تعرض لأخلاق الجحود، فالجحود من الأخلاق التي تبين دناءة صاحبها، لأن الجحود في معناه أن تعرف قيمة النعمة ولا تعترف بحقها، وأن تعرف حق الله عز وجل ولا تؤمن به، فقد يكون الكافر جاهل بحقيقة الإيمان وربما لا يعرف إن للخلق خالق يخلقه له علينا حق الإيمان به والطاعة إليه، إلا أن الجاحد يعرف أن للخلق خالق ولا يؤمن به ، ومن ثم فهو أشد بؤسا من الكافر، لذلك فإن أعداء الإسلام والحاقدين عليه والحاسدين له قد عمدوا إلى مهاجمته والإساءة إليه والتنقيص من شأنه، رغم علمهم بحقيقته .
الجاحد لا يعرف معنى الشكر
فالجاحد يأكل من خيرك ثم لا يشكر إليك، ويتعلم من علمك ثم لا ينسب الفضل إليك، فكذلك هم مع الله يعرفون حقيقة ألوهيته ولا يؤمنون بها، لذلك فزع سيدنا إبراهيم عليه السلام من ألا يعرف ربه حتى لا يجحد نعمته وحقه عليه، فعبد الشمس تارة والقمر تارة وظل يبحث عن الإله الذي يستحق عبادته حتى لا يجحد حقه، حتى ترك أمره للذي بيده هدايته إليه ( فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ( 77 ) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون ( 78 ) إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ( 79 ) )الأنعام.
وانظر للسيدة خديجة وفطرتها السليمة في الاعتراف بالفضل الإلهي على النبي صلى الله عليه وسلم، وإيمان النبي بهذا الفضل وشكر الله عليه، بعدما شهدت له خديجة-رضي الله عنها حين جاءه الوحي لأول مرّة ورجع إليها وخبرها الخبر وقال: (( لقد خشيت على نفسي )).فقالت له:(( كلاّ والله ما يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق )) رواه البخاري.
حتى أن كفار قريش أنفسهم وبالرغم من عداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم لم يجدوا حقه وكانوا يسمونه بالصادق الأمين، فلما قامت قريش ببناء الكعبة قبل بعثة محمد- صلى الله عليه وسلم- تنازعوا في رفع الحجر الأسود إلى مكانه، واتفقوا على تحكيم أول من يدخل عليهم الباب، فكان أول داخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ففرحوا جميعاً، وقالوا: جاء الأمين، جاء محمد. وقد كانوا يلقبونه بلقب الأمين؛ لما يعلمونه من أمانته صلى الله عليه وسلم.
كما أن أهل الكتاب يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم إجمالا كما أخبر الله عز وجل عنهم “الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ“(البقرة:146) قال ابن كثير-رحمه الله- يخبر الله عز وجل أن العلماء من أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرف أحدهم ولده، والعرب كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل معه صغير ابنك هذا ” قال نعم يا رسول الله أشهد به قال” أما إنه لا يخفى عليك ولا تخفى عليه”.
اقرأ أيضا:
8فضائل للنهي عن المنكر .. سفينة المجتمع للنجاة ودليل خيرية الأمة الإسلامية ..تكفير للذنوب ومفتاح عداد الحسناتماهو الجحود؟
الجحود نفي ما في القلب إثباته، وإثبات ما في القلب نفيه، أي أنك تعرف الحق وتعدل عنه إلى الباطل لحاجة في نفسك، .
لذلك يقول الله تعالى:”قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ”.
لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة : يا بني زهرة إن محمدا ابن أختكم فأنتم أحق من ذب عن ابن أخته فإنه إن كان نبيا لم تقاتلوه اليوم وإن كان كاذبا كنتم أحق من كف عن ابن أخته قفوا حتى ألقى أبا الحكم فإن غلب محمد رجعتم سالمين وإن غلب محمد فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئا- فيومئذ سمي الأخنس وكان اسمه أبي- فالتقى الأخنس بأبي جهل فخلا به، فقال يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس ههنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا ؟ فقال أبو جهل ويحك والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش ؟ فذلك قوله “فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ” .
وروى الحاكم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً! قال: لم؟ قال: ليعطوكه فإنك أتيت محمداً تتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له أو أنك كاره له، قال: وماذا أقول؟! فو الله ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال:لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه! قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر (يؤثر يأثره عن غيره)، فنزلت:”ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا” (المدثر:11) .
فبعض الناس قد يعلم الحق ومع ذلك يراوغ به، ويقنع نفسه بالباطل لحاجة في نفسه أو لمصلحة شخصية، غير مكترث بما يلقى الله به يوم القيامة.
الفرق بين كفر الجهل وكفر الجحود
كفر الجهل هو عدم التصديق بسبب الجهل، كما قال الله تعالى: بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ {يونس:39}، وقال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ* حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {النمل:83-84}.
وأما كفر الجحود فهو كتم الحق مع العلم بصدقه، كما قال الله تعالى في شأن اليهود: فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ {البقرة:89}، وقال في شأن فرعون وقومه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا {النمل:14}، وقال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {البقرة:146}.