عبادة الله تعالى تقوم على جانبين أو جناحين هما الخوف والرجاء فلا يصح أن نعبده خوفا فقط كما لا يصح أن نعبده رجاء فقط بل نعبده خوفا ورغبا.
عبادة الخوف من الله:
ولهذا فقد جاءت آيات القرآن العظيم مفصلة جانب الخوف وجانب الرجاء فذكرت الجنة ونعيمها والنار وأهوالها ولأنه كثير ما يجأ الناس لذكر الجنة ويقتربون من جانب الرجاء طمعا فيه فإنه في هذه السطور نبين جان الخوف من الله وأنه عبادة ولها ثوابها قال الله فيه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}(الرحمن:46)، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)(متفق عليه).
وعلى فصلت آيات القرآن هذا الجانب الرهيب الذي نستعيذ بالله منه ونظل نعبده خوفا من الوقوع في عاقبة الظالمين ولنعلم أنه إن عصيناه ولم نتب ربما كان مآلنا كمآل أهل العصيان إلا أن يشملنا الله برحمته وعلى المؤمن ألا يمل من ذكر الموت بل إننا مأمورون ففي الحديث الشريف بالإكثار من ذكره فقال صلى الله عليه وسلم: أكثروا من ذكر هازم اللذات ومفرق الجمعات الموت" كما أن عليه أن يعرف كيف يملأ كتابه فإن هذا كتابك الذي سطرته بأعمالك، فهل فكرت يوما ماذا وضعت فيه، وماذا سطرت فيه، منذ صرت مكلفا إلى اليوم {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}(الإسراء:13ـ14).. {ووُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}(الكهف:49).
الخوف في القرآن:
وقد ركزت آيات الكتاب العزيز على هذا الجانب فكان هناك آيات تعبر عن موقف الظالمين وبين خطورة التهاون وتوعدت المقصرين ومن هذا قوله تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا}(النساء:123)، وقوله جل في علاه: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}(آل عمران:131)، وقيل أشدها قوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا}(مريم:71).. وكذا من آيات الخوف: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}(آل عمران/28)، وقيل: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ}(الرحمن/31) ، وقيل: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}(التكوير/26)، وقيل: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}(البروج/12).
أحاديث الخوف من الله:
وكما جاءت آيات القرآن جاءت أحاديث النبي صلى اله عليه وسلم ومن هذا
.ففي حديث ثوبان رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا. قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَم قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا)(صحيح ابن ماجة)، وعن ابن مسعود قال صلى الله عليه وسلم: (إيَّاكُم ومحقَّراتِ الذُّنوبِ فإنَّهنَّ يجتمِعنَ على الرَّجلِ حتَّى يُهلِكنَهُ)(صحيح الجامع).
أخوف آية في القرآن:
ولعل أخوف آية في القرآن الكريم قوله تعالى {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}(الزمر:47).. وهي آية عظيمة تستحق أن نقف معها وقفات.
وقد في علاقة الصالحين من العباد والزهاد مع هذه الآية أخبار كثيرة منها ما جاء في سير أعلام النبلاء وغيره في ترجمة الإمام الكبير، الزاهد العابد، الحجة الثقة محمد بن المنكدر: "أنه بينا هو ذات ليلة قائم يصلي إذ استبكى، فكثر بكاؤه حتى فزع له أهله، وسألوه، فاستعجم عليهم، وتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم فجاء إليه، فما زال يسكته حتى سكت، فقال له: ما الذي أبكاك؟ قال: مرت بي آية، قال: وما هي؟ قال: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}، فبكى أبو حازم، وعاد محمد للبكاء حتى اشتد بكاؤهما.. فقال أهل ابن المنكدر.. جئنا بك لتسكته فزدته بكاء".
وروى عفيف بن سالم، عن عكرمة بن إبراهيم، عن ابن المنكدر، أنه جزع عند الموت، فقيل له: لم تجزع؟ قال: أخشى آية من كتاب الله {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}.
والآية شديدة على المؤمن أن تفهمها ووقف معها لأنها تظهر جانبا الخوف منه وعدم أمن العقاب في لحظات قد تغيب ولا يفكر فيها وهي لحظات الضعف إن هذه الآية آية تستحق والله من المسلم أن يقف عندها طويلا ويبكي لذكرها كثيرا.. فإن المواقف التي يمكن أن يبدو للعبد فيها ما لم يكن يحتسب كثيرة أيضا: عند الموت، وفي القبر، وفي العرصات، وموقف القيام بين يدي الله، وعند الميزان وعلى الصراط وغيرها من المواقف العصيبة.