وبين أن التاريخ الإسلامي حافل بنماذج لهذه الصفة، من هذا أن الخليفة الراشدي العظيم علي بن أبي طالب t وهو (أمير على المؤمنين) تنازع مع يهودي على ملكية درع كانت في حوزة اليهودي، فاحتكما إلى القاضي شريح بن الحارث، فقال الخليفة علي بن أبي طالب لليهودي :الدرع درعي لم أهب ولم أبع، فقال اليهودي : بل هي درعي، وفي يدي، فقال : بيني وبينك القاضي ... قال شريح القاضي يصور الواقعة: فقعد عليّ إلى جنبي، واليهودي بين يدي، وقال عليّ : هذه الدرع درعي، لم أبع، ولم أهب، فقال لليهودي : ما تقول؟ قال : درعي ، وفي يدي ، وقال شريح : يا أمير المؤمنين هل من بينة؟ قال : نعم، الحسن ابني ، وقنبر ، يشهدان أن الدرع درعي، قال شريح : يا أمير المؤمنين شهادة الابن لا تجوز، فقال علي : سبحان الله ! رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته، سمعت رسول الله يقول : "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة" فقال اليهودي : أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه! وقاضيه يقضي عليه! أشهد أن هذا الدين على الحق، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الدرع درعك يا أمير المؤمنين سقطت منك ليلاً"، (وكان شريح قد حكم لليهودي بالدرع؛ لأنه في حيازته ولا بيّنة عند علي).
المساواة:
ويضيف : عويس" أن المساواة لا يمكن التخلي عنها في مجتمع ينشد التعايش بين أفراده حيث تعدّ (المساواة) المرتبطة بالعدل بين أعضاء المجتمع من أهم القيم المحققة للتعايش والتضامن، فمن قواعد الإسلام إقامة العدل بين كل الناس من خلال تطبيق المساواة في الحقوق المدنية وشئون المسؤولية والجزاء، وحق التعلم والثقافة، وحق العمل، بين المسلمين وغير المسلمين.
ولا يقف تأثير مبدأ المساواة في الإسلام عند تحقيقه للشعور العام والفردي بالكرامة انطلاقاً من تكريم الله لبني آدم؛ بل إنَّ مبدأ المساواة يسهم في تحديد مفهوم الإنسان، ويمثل بالتالي حجر الزاوية الذي يرتكز عليه بناء النظام الاجتماعي.
حفظ الكرامة الإنسانية:
ويذكر " عويس" أن حفظ الكرامة الإنسانية يرتبط بتحقيق المساواة القائمة على العدل تحقيق قاعدة إسلامية جامعة هي حفظ الكرامة الإنسانية، على أساس أن الله تعالى كرم "الإنسان" من حيث هو إنسان بصرف النظر عن جنسه أو ديانته، ورفع منزلته ـ ابتداء ـ على كثير من خلقه؛ بل إنه سبحانه أمر ملائكته بالسجود لآدم ـ عليه السلام ـ إعظاماً لشأن الإنسان، وتفضيلاً له، قال عز وجل : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى}.
ويوضح أن القرآن يعترف بـ"شرف الإنسان" بمعنى أن الله فضله على "كثير من المخلوقات الأخرى"، وليس تقبيل هذا المبدأ مفهوماً أخلاقياً وحسب؛ بل يؤدي إلى نتائج إلزامية ألا وهي احترام الإنسان كرامة سائر الإنسان، ويشهد شعوره بمسئولية على احترامه كرامته الخاصة؛ فهو محترم ومكرم.
حرية العقيدة والفكر:
ويختم د. عبد الحليم عويس بأن حرية العقيدة والفكر مهمة جدا لتحقيق التعايش فالإسلام قام على احترام حرية الآخرين في الفكر والعقيدة، وكان سمحاً نابذاً لأية صورة من صور الاضطهاد، قال تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ}، ويقول سبحانه تعالى مخاطباً الرسول: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، وقال تعالى : {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ}.
وقد قامت سيرة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما يبن د. عويس" على هذا النهج ، فقد منع الرسول رجلاً حاول أن يرغم ولديه على الإسلام، فقد ذكر المؤرخون أن رجلاً يقال له الحصين من بني سالم بن عوف، كان له ولدان مسيحيان وهو مسلم، فسأل الرسول عليه الصلاة والسلام عما إذا كان يجوز له إكراههما على اعتناق الإسلام، وهما يرفضان كل دين غير المسيحية فنهاه الرسول r عن ذلك، كما كانت إحدى نساء بني قريظة وتـُدعى ريحانة من نصيب الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعد محاربة قومها، فعرض عليها الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب، فقالت : يا رسول الله بل تتركني في ملكك، وأبت إلا اليهودية، فقربها الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ حتى أسلمت بعد ذلك ... وقد كتب الرسول إلى معاذ بن جبل وهو باليمن أن لا تفتن يهودياً عن يهوديته، وقد حض النبي محمد ـ عليه السلام ـ على التسامح وحبَّبه إلى المسلمين ... قال عليه الصلاة والسلام : "من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة"، وأظهر النبي وخلفاؤه وقواد المسلمين سماحة عظيمة فيما عقدوا من معاهدات صلح مع البلاد التي فتحوها وغلبوها على أمرها.
وأمر الله النبي ـ عليه السلام ـ أن يجير المشرك إذا لجأ إليه واحتمى به، وهي سماحة ما بعدها سماحة :{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}.
وأمر الله المسلمين بأن يفوا بعهودهم لمن عاهدوهم سواء أكانوا من أهل الكتاب أم من المشركين، قال تعالى : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً}، وهو خطاب يدعو إلى الوفاء بالعهد بصفة عامة، وقال تعالى : { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ}.
([1]) النساء : 135.
([2]) النساء : 58.